المقالح يحصد جائزة أمير الشعراء أحمد شوقي

للشاعر اليمني الكبير ولع بمصر وفي داخله تسكن ذكريات أيام التلمذة حينما كان يتكلم ويعرض ويعارض ويشعر بسعادة كبيرة لأنه يقول ويعبر.
في هوامشه اليمانية على كتابات مصرية: المقالح يحيي أول مَنْ فتح أمامه مدائن مصر الأدبية
فصول وذكريات عن رجاء النقاش ولويس عوض وعبدالتواب يوسف

مصطفى عبدالله
فاز الشاعر اليمني الكبير الدكتور عبدالعزيز المقالح بجائزة أمير الشعراء أحمد شوقي التي يمنحها اتحاد كتاب مصر – في دورتها الأولى - لشاعرين (مصري وعربي)، وقد فاز عن الفرع المصري الشاعر الكبير أحمد عبدالمعطي حجازي، بينما حصد المقالح جائزة الفرع العربي  للجائزة.
وللشاعر اليمني الكبير عبدالعزيز المقالح ولع بمصر وفي داخله تسكن ذكريات أيام التلمذة حينما كان يتكلم ويعرض ويعارض ويشعر بسعادة كبيرة لأنه يقول ويعبر ويكتشف أنه صاحب رأي وصاحب رؤية.
أما مصر فسعادتها أنها عاشت تلك الحقبة الذهبية وهي ترفع لواء الحرية وتدعو إلى القومية، بل لا تقف عند حدود العالم العربي، وإنما يتجاوزه طموح قائدها إلى ما صار يُعرف بـ "العالم الثالث"؛ إفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية.
عاش المقالح تلك الفترة الذهبية وتواصل مع كتاب مصر: العقاد في "الديوان في الأدب والنقد" بجزأيه، وأحمد بهاء الدين في مزجه التاريخ بالسياسة بالفن بجمال الأسلوب وعمق الفكرة في "أيام لها تاريخ"، ومحمد فريد أبوحديد في استدعائه العمق التاريخي في الفن في "الوعاء المرمري". لكن كاتبنا يقف وقفة طويلة محاورًا لويس عوض مناقشًا آراءه التي أودعها كتابه "مقدمة في فقه اللغة". 
وقبل أن أخوض في هذه الموضوعات التي ألمحت إليها في مقالي بمجلة "الشارقة الثقافية"، أذكر للمقالح ذلك الوفاء الذي قدمه للرجل الذي أهدى إليه كتابه الذي بين يدي واصفًا إياه بالصديق العزيز الأستاذ عبدالتواب يوسف، أول من فتح أمامه أبواب مدائن مصر الأدبية والفكرية؛ فمع أن عبدالتواب يوسف قد انتقل إلى رحمة الله، فحياته في ذهن رجل من بلدة أخرى، وتذكره يؤكد أن العمل المخلص لا يموت بموت صاحبه، وإنما هو في الحقيقة يُحيي صاحبه في أذهان الناس بعد أن يغادر عالمنا إلى عالم بعيد.  

كتاب المقالح
محاولات  باءت بالفشل

لفت نظري في هذا الكتاب الصادر عن "دار الهلال" بالقاهرة عنوانه الجذاب "هوامش يمانية على كتابات مصرية"؛ فهو لم يقل "هوامش مقالحية" وإنما قال "يمانية" ليرفع مستوى الحوار من حوار بين أصحاب أقلام إلى حوار بين ثقافتين. ولذلك وقف وقفة متأنية أمام كتاب لويس عوض "مقدمة في فقه اللغة العربية"، وهو كتاب حوكم عند صدوره وقوبل بنقد لاذع من أهل التخصص، لأن المؤلف أسرف في ربط ظواهر اللغة العربية بأمور لا رابط بينها، كما أنه حاول أن يجرد العربية من بعض خصائصها التي اتفق اللغويون عليها، ومن هذه الآراء ما يقال عن أن اللغة العربية "توقيفية" وبالتالي فهي أكمل اللغات، بينما يرى لويس عوض أن العربية تأثرت ببعض اللغات الهند أوروبية أو الآرية، وأنها ليست كما يصورها أصحابها بهذا الجلال والبهاء.
وحاول المقالح أن يبرر أن محاولة لويس عوض جعل اللغة العربية ذات طبيعة اجتماعية متأثرة في نشأتها بلغات أخرى يلغي فكرة النقاء الخالص للغة، كما يلغي فكرة النقاء الخالص للعرق. ويرى أن هذا الرجل الذي بالغ في نقده أو تطرفه في اليسار هو صورة من أولئك الذين بالغوا في تطرفهم من اليمين؛ فكلاهما ابتعد عن حقيقة اللغة بقدر ما حمله حماسه إلى الوصول إلى أقصى مدى في الحكم المسبق، دون أن يكون لحكمه برهان. 
ويستشهد المقالح برأي للناقد رجاء النقاش الذي يقول في كتابه "الانعزاليون في مصر": "إن مصر بعد الإسلام بقرن وتحد صارت اللغة العربية فيها هي لغة الكنيسة والمسجد، ولغة الريف والمدينة، ولم يحدث هذا لكون المصريين أحسوا بأن اللغة العربية هي اللغة المناسبة، بل لأنهم عرب وتربطهم بإخوانهم في الجزيرة العربية والشام من أواصر القربى والمصالح وروابط الجوار والعلاقات التاريخية المشتركة ما يجعل كل محاولة للتشكيك إفسادًا للحقيقة في حد ذاتها، قبل أن يكون إساءة إلى البحث العلمي، وإلى العلماء".
ويقول المقالح إنه أدرك منذ الفصل الأول أنه وصل إلى حد فهم هدف الدكتور لويس عوض من وراء تأليفه لهذا الكتاب، ولم يكن متعجلًا في أحكامه عليه، وإنما استمر في قراءة فصوله حتى يصل إلى الجذور التي بنى عليها المؤلف نظرته. 
يقول: "هذا الكتاب لم يظهر فجأة ولم يأت تعبيرًا عن رغبة عابرة في دراسة جانب من أوضاع اللغة العربية، ولم يصدر عن طموح معين إلى إعادة النظر في فقه هذه اللغة أو إلى محاولة تأسيس فقه لغة معاصر، لكن الكتاب صدر بعد جهد استغرق سنوات طويلة وجاء متسقًا مع أفكار صاحبها التي ظهرت في أواخر ثلاثينيات القرن العشرين، وهي في مجملها أفكار تناصب اللغة العربية العداء، وقد ظهرت بوادر هذه الأفكار في ديوانه الشعري اليتيم "بلوتو لاند" وفي كتابه "مذكرات طالب بعثة"، وهو خليط بين الرواية والسيرة وأدب الرحلة، وهو مع الديوان كل ما كتب لويس عوض بالعامية المصرية التي نادى بها لغة رسمية وشعبية للمصريين وظنها اللغة القادرة على إنجاب العمالقة.
وهو يعلل لفكرته بقوله في مقدمة ديوانه "بلوتو لاند": "ما من بلد حي إلا وشبت فيه ثورة أدبية حدفها تحطيم لغة السادة المقدسة وإقرار لغة الشعب العامية، أو الدارجة، أو المنحطة. فأصحاب "الكوميديا الإلهية"، و"دون كيشوت"، و"حكايات كانتربري" في إيطاليا وفرنسا وإسبانيا وإنجلترا أبطال شعبيون قبل أن يكونوا أدباء وزعماء استقلال أو أصحاب فن عظيم، لأنهم كفروا باللغة المقدسة اللاتينية، وآمنوا بلهجتها المنحطة، وحماية الكنيسة الدائمة للسادة من العبيد. ولذلك حاولت الكنيسة إخماد ثورة العبيد، وأهدرت دماء الثائرين حفاظًا على اللغة المقدسة.
أما في مصر فقد ثار كثيرون على اللغة المقدسة، بعضهم داخل النطاق النظري مثل لطفي السيد، وبعضهم بصورة عملية كمحمود بيرم التونسي، لكن ثورتهم لم تكن بالفعالة لأن العبيد لم ينضجوا بعد لتحطيم أغلالهم".
ويعلق المقالح بأن هذا الكلام الذي كتبه لويس عوض في الثلاثينيات من القرن العشرين يؤكد عمق الجفوة بينه وبين لغتنا الفصحى، وبينه وبين العرب الذين يسميهم "السادة أصحاب اللغة المقدسة"، ومحاولته الدائمة التفريق بين المستويين؛ الفصحى والعامية المعادلين لمستوى السادة والعبيد.

وينتهي المقالح إلى أن كثيرًا من الذين ناصبوا اللغة الفصحى العداء قد تراجعوا عن مواقفهم  إلا لويس عوض، ولذلك يستشهد المقالح مرة أخرى برجاء النقاش في كتابه "الانعزاليون في مصر"، فيقول: "منذ أواخر القرن التاسع عشر والمحاولات لا تتوقف عن تحويل اللهجات العامية إلى لغات مستقلة قائمة بذاتها منفصلة عن اللغة العربية، والحجج التي رددها هؤلاء هي نفسها الحجج التي يرددها الدكتور لويس عوض، وهي عدم الإيمان بوجود أي رابط بين الشعوب التي تسكن المنطقة العربية، والإيمان بضرورة تحرير كل شعب من هذه الشعوب عن طريق ثورة أدبية شعبية من اللغة العربية، بحيث يكون هناك لغة مصرية يعبر بها شعب مصر وأخرى شعبية يعبر بها أبناء الشام وثالثة شعبية لأبناء العراق ورابعة للمغرب. وهكذا تنتشر العاميات على حساب اللغة العربية. وهذه المحاولات التي مضى عليها أكثر من مائة عام باءت بالفشل، فبقيت اللغة العربية أداة التعبير لجميع أبناء الوطن العربي وليس لفئة اجتماعية دون أخرى، لأن هناك رابطًا يربط أبناء وطننا برباط تاريخي اسمه "القومية العربية" أو "العروبة" وهي بالمناسبة اللغة التي نزل بها الوحي بكل ما له من جلال وسعة".