"المكان" محاولة جريئة لخلق خرائط بديلة للبشر والكائنات

معرض "المكان" للفنان السيد عبده سليم وتلامذته، يشكل مغامرة في تأسيس موضع أسمى يليق بالكائنات والموجودات الزاهدة في مدن المعمورة المسكونة بالدمار.
الجرأة الفنية والابتكار الجمالي ميزا غالبية أعمال المعرض
التراث الفرعوني الروماني أخذ يهيمن على مخيلة الفنانين المصريين الجدد

بقلم: شريف الشافعي

يتضمن المعرض الجماعي "المكان"، الذي أقيم في القاهرة في أكتوبر/تشرين الأول الماضي للفنان السيد عبده سليم وتلامذته، مجسمات نحتية تحلق خارج الضجيج وفوق المألوف، مستدعية الموروث الشعبي البريء، ومستثيرة أوجاع البشر وآلام الكتل الصمّاء على حد السواء.
النحت، هو فن الحكايات الناضحة بالحيوية بامتياز، لأن للكتلة مقدرة على تثبيت الزمان متجمدًا كمكان، والإبقاء على المكان سائلًا كزمان، فإذا تحدثت الخامة التي صوّرتها أصابع الفنان في حالة معينة، فإنها تنطق بلسانهما معًا، وتروي سيرتهما المشتركة في عالم لا تفرّق مطرقته القاسية بين الحجارة وقلوب البشر. هكذا، يمكن أن يستوعب البرونز المصهور والنحاس المطروق براكين المشاعر الجياشة ونتوءات الروح، ليفرّ الإنسان بوجوده خارج مدارات الجذب، محتميًا بصورته البصرية الجديدة التي لا تنضب ولا تتآكل بفعل عوامل التعرية.
كم من تمثال قد نجا صاحبه من واقع الزحام والضجيج والأدخنة، ليعيش عزلته الفريدة مشحونًا بخميرته الطينية وطاقته الخلاقة وبكارته الأولى. من هذا المنطلق، يأتي معرض "المكان" للفنان السيد عبده سليم وتلامذته، مغامرة في تأسيس موضع أسمى وأنقى يليق بالكائنات والموجودات الزاهدة في مدن المعمورة المسكونة بالتلوث والدمار.
يحتوي المعرض، المنعقد في أتيليه العرب للثقافة والفنون (غاليري ضي) بالقاهرة على مدار أسبوعين، على أعمال نحتية تشكل الجانب الأكبر من الإبداعات، وهي للفنان السيد عبده سليم (66 عامًا) وعدد من الشباب، فضلًا عن بعض لوحات سليم وجدارياته، التي لا تخلو من تركيبات وبُعد ثالث.
تنتصر مجسّمات معرض "المكان" للنقاء الإنساني، حيث فضاء القرية وصفاء الريفيين ومفردات الحياة البسيطة والشعبية، وتروي أعمال الفنانين تفاصيل هذا العالم الذي تنتمي إليه، مستدعية الموروث الشفاهي والحكايات والأساطير والملائكة والشياطين وأشباح اليقظة والمنام، ومستثيرة أوجاع البشر وآلام الكتل الصمّاء.
تراهن مجسمات المعرض على تحليقها فوق المألوف بخيالات وازنة وشاردة في آن واحد، وعلى تدللها خارج ضوضاء الروح وطقوس المدينة العصرية، ملتقطة عصارة تراكيب الإنسان الداخلية، والدماء التي تجري بطلاقة وعفوية في شرايين الحياة.
اتساق الرؤية 

النقاء الإنساني
أشكال مرنة

 تتسق رؤية الفنان السيد عبده سليم الفنية مع تجربته الحياتية، إذ اختار أستاذ الفنون الجميلة وصاحب جائزة الدولة ووسام العلوم والفنون من الدرجة الأولى الإقامة في صومعته الخاصة بقرية إبشان في محافظة كفر الشيخ (130 كيلومترًا شمال القاهرة)، بعيدًا عن أجواء العاصمة الصاخبة، لتكتسي أعماله برائحة الأرض ورقرقة مياه الجداول وروح الاخضرار ونخالة أشعة الشمس الذهبية.
يحفل معين الفنان البصري بعناصر الطبيعة القادمة من القرية العذراء، شغفه الأكبر، ومشاهد الحياة اليومية، فضلًا عن الذاكرة المعرفية التي تنفتح على الموروث المرئي والحكائي، وعلى النحت الفرعوني بصفة خاصة، بأسراره ورموزه ونقوشه واستبطاناته الوجدانية اللانهائية.
ويفكك معطيات مخزونه الفني ليعيد بناءها بسلاسة وفق أطروحاته الشخصية، موزعًا الأدوار في تكويناته الزاخمة على الذات والآخرين من بشر وطيور وضفادع وقطط وأهلّة وأقمار ونجوم وغيرها من أيقوناته التي يقدمها منفردة أو يدمجها معًا في عالم سحري وتخييلات رمزية وسوريالية، كما في المرأة ذات الأجنحة، والرجل ذي الأرجل المتعددة.
تحفل أعمال سليم النحتية والتصويرية بحس درامي وقدرة على استلهام أحاديث المجالس الريفية وحكايات القرويين وأساطيرهم المروية في صياغات عصرية مبتكرة، فيها ما فيها من الدفء العائلي، والعلاقات الحميمة بين البشر والطيور والحيوانات والكائنات المحيطة، وفيها كذلك وجوه أخرى من الصراعات والنزاعات واستعمال الأسلحة البدائية والعصرية.
تأتي أشكال عبده سليم انسيابية مرنة، وكأنما تستجيب الكتل الصعبة للكلمات التي تعبر عنها أو تنطق بها، فقد تنحني حزنًا أو تتمايل طربًا أو تتراقص بهجة، وتنفلت من نسيج الخامة أضواء كتلك التي تسكن الخلايا الحية وتمنحها إشراقها الداخلي وفلسفتها البصرية.
في فلك "المكان" أيضًا، تدور التجارب النحتية الشابة التي يتضمنها معرض غاليري ضي، لمجموعة من الفنانين، منهم: شادي البنا، رمضان عبدالمعتمد، إبراهيم السيد، وائل الشافعي، عبدالرحمن عبده، زينب صبحي، ماجد ماهر، صلاح شعبان، إيمان سعد. وتعني ثيمة المكان لدى فناني المعرض استحواذ الكتلة على الفضاء، إلى حد السيطرة عليه، وامتلاكه، وتثبيته في موضع ملائم.
تتنوع خامات الأعمال بين النحاس والبرونز والحجارة والخشب والجبس، ويقدم الفنانون البورتريه متحللًا من التزامه بالتفاصيل الكاملة للوجه الإنساني، فقد تغيب العينان في واقع يفتقد البصر والبصيرة، وقد ينوب قناع عن الرأس بالكامل، كما قد يظهر الجسم البشري دون أطراف، وقد يجري تركيب هذه الأطراف المبتورة معًا في تشكيلات مستقلة.
هذا التعاطي المغاير مع الإنسان، وكأنه مجموعة من "القطع" القابلة للفك والتركيب، يمتد أيضًا إلى تفاعل الفنانين الشباب مع الكائنات الأخرى من طيور وحيوانات برية وبحرية، فالموجودات كلها عناصر ومفردات تستعملها الأصابع مكتملة أو مجتزأة في لعبة الفن الواسعة، مكسبة إياها طاقة ومقدرة على الحركة والنطق والتفاعل مع المتلقي.
يبدو معرض "المكان"، محاولة جريئة مقتحمة لخلق خرائط بديلة للبشر والكائنات، في جموحهم وجنونهم وانعزالهم، أملًا في أن تتجاوز الموجودات حيزها الحقيقي الضيق ومواضعاتها الكونية غير المواتية، ليصير الواقع بأسره أسطورة محببة.