المناسبة والانسجام بين الآيات القرآنية

الانسجام يمثّل خلاصة ما توصّلت إليه جهود الباحثين المعاصرين في مجالي لسانيّات النّص وتحليل الخطاب في تعريف كلّ من الخطاب والنّص.
كتاب شوقي البوعناني يدور حول الانسجام باعتباره مبدأ تداوليّاً عرفانيّاً
في بعض المقاربات لتحليل الخطاب يُعدّ الانسجام خاصّيّة للتمثّل الذّهنيّ الذي ينشئه المتقبّل للخطاب

لمّا كان الانسجام يمثّل خلاصة ما توصّلت إليه جهود الباحثين المعاصرين في مجالي لسانيّات النّص وتحليل الخطاب في تعريف كلّ من الخطاب والنّص؛ فقد ارتأى الباحث التونسي د.شوقي البوعناني أن يكون هذا المفهوم هو المدخل إلى محاولة رصد مظهر من مظاهر التّفكير اللّسانيّ النّصيّ عند القدامى يتمثّل في مفهوم المناسبات بين الآيات والسّور، وذلك في كتابه "مبدأ الانسجام في تحليل الخطاب القرآني ومن خلال علم المناسبات" حيث يبحث في مظاهر التّفكير النّصيّ من خلال ممارسة علماء المناسبات لتحليل الخطاب، مركزا على بيان طبيعة المنهج الّذي توخّاه هؤلاء في تحليل وجوه المناسبة في الخطاب القرآنيّ، وموضحا أنّ الحديث عن مبدأ الانسجام أكثر ملاءمة لجهودهم تلك؛ لأنهم لم يقتصروا في تحليل الخطاب القرآنيّ على مظاهر الاتّساق النّحويّ، بل تجاوزوها إلى سائر أنماط المعرفة التّاريخيّة والتّداوليّة العامّة.
وأوضح البوعناني في كتابه الصادر عن مؤسسة مؤمنون بلا حدود أن عالم المناسبة ينطلق في عمله من التّسليم ابتداء بانسجام الخطاب القرآني لأسباب عقائديّة ترتبط بالإيمان بأنّ القرآن كلام الله المنزّل على نبيّه، وهو لذلك لا يمكن أن يكون متناقضاً مصداقاً للآية "أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً".
وأشار إلى أن كتابه ليس حول مسلّمة الانسجام باعتبارها مصادرة ينطلق منها عالم المناسبات في تحليله للخطاب القرآني، بل حول الانسجام باعتباره مبدأ تداوليّاً عرفانيّاً يحكم عمل عالم المناسبات عند تحليله للخطاب القرآني بحثاً عن الانسجام فيه. فمنهج تحليل الخطاب الذي ألزمنا به نفسنا ينطلق من مبدأ الانسجام باعتباره فرضيّة عمل لا باعتباره مصادرة، وهذه نقطة خلاف أساسيّة بين محلّل الخطاب وعالم المناسبات. وفي بعض المقاربات لتحليل الخطاب يُعدّ الانسجام خاصّيّة للتمثّل الذّهنيّ الذي ينشئه المتقبّل للخطاب، وهو أمر لن نغفل عنه؛ لأنّنا سنتعامل مع جهد عالم المناسبة في تحليل الخطاب القرآني على أنّه ثمرة من ثمار تمثّله الذّهني للخطاب القرآني. وبذلك سيكون فهمُنا للانسجام على أنّه مبدأٌ تداوليٌّ عرفانيٌّ هو المحدّد للعمل الذي سنقوم به في هذا البحث.

النّظم يقترن عند الزمخشريّ بترتيب المعاني، وهو يرتبط عند ابن عاشور بترتيب الحجج وبترتيب الخطاب

وقال "اقتضى تعاملنا مع الانسجام على أنّه مبدأ وليس قاعدة نحويّة أن نتوخّى في بحثنا هذا مناهج تحليل الخطاب بدلاً من المناهج المعتمدة في نحو النّص؛ ذلك أنّ نحو النّص وُضِع على منوال نحو الجملة. فمثلما يبحث نحو الجملة عن قواعد سلامة التّركيب في الجملة، فإنّ نحو النّصّ يبحث عن قواعد سلامة البناء في النّصوص، وهي قواعد نحويّة أساساً. فاهتمام نحاة النّصوص منصبّ على العناصر اللّغويّة التي لم يتمكّن نحو الجملة من تفسيرها "من قبيل العناصر الإحاليّة والتّكرار والحذف..."، والّتي تنهض بدور يتجاوز حدود الجملة فيتحقّق بها اتّساق الجمل داخل النّصوص".
ورأى البوعناني أنّ مصادرة انسجام الخطاب القرآني، الّتي ينطلق منها علماء المناسبات، لا تختلف في الواقع عن مصادرة الانسجام التي ينطلق منها محلّلو الخطاب المعاصرون؛ إذ إنّ تعريف الخطاب نفسه يفترض مفهوم الانسجام. فالخطاب غالباً ما يُعرّف عندهم بأنه ليس مجرّد مجموعة متتابعة من الجمل؛ بل هو مجموعة منسجمة من الجمل. وسقوط خصيصة الانسجام يؤدّي بالضرورة إلى إسقاط صفة "الخِطابية" عن الخطاب. وبهذا الاعتبار تكون جهود علماء المناسبات مندرجة ضمن مجال تحليل الخطاب؛ إذ إنّ بحث علماء المناسبات هو في ما يكون به الملفوظ القرآنيّ خطاباً منسجماً. وبذلك يصحّ ما عمدنا إليه في هذا البحث من تقريب بين مفهومي المناسبة والانسجام باعتبارهما مبدأين موجّهين لممارسة تحليل الخطاب للوقوف على ترابطه وتماسكه. وهذا التقريب يحُدّ من اتّساع المفهومين كليهما. فمفهوم المناسبة على قدر من الاتّساع يجعله صالحاً لأن تُؤسّس عليه نظريّة لغويّة كاملة تشمل كلّ مستويات اللّغة النّحويّة والبلاغيّة والنّصية. وكذلك هو شأن مفهوم الانسجام الّذي يتّسع لمختلف أنواع العلاقات بين الجمل، بما في ذلك العلاقات الإحاليّة مثل العلاقات بين الضّمائر وأسماء الإشارة ومَعَادَاتها مثلاً وهي تخرج عن مجال اهتمام علماء المناسبات.
ولفت إلى أن عمله يكمنُ في تفعيل مفهوم المناسبة وتحيين مجهود المفسّرين واستثماره في بناء نظريّة المناسبة؛ ذلك أنّ الوظيفة الإجرائيّة لهذا المفهوم في كتب التّفسير وفي تحليل الخطاب القرآنيّ يبدو أنها حالت دون إيلاء الجانب النّظريّ ما يستحقّه من عناية، إلّا ما جاء من فصول في كتب علوم القرآن لدى الزّركشي (ت 794هـ) والسّيوطي (ت 911هـ) مثلاً، وكانت عنايتهم فيه منصرفة إلى التأريخ للمفهوم والتّمثيل له من خلال شواهد منتقاة بدورها من كتب التّفسير، أو ما جاء فيها من إشارات نظريّة متناثرة بحسب ما يقتضيه السّياق في تفسير هذه السّورة أو تلك. إنّ مفهوم المناسبة بين الآيات يشكو، إذاً، من ضمور الجهد النّظري المبذول في بلورته عند القدامى. والمادّة الأهمّ لعلم المناسبات هي تلك المادّة الضخمة المبثوثة في كتب التّفسير وكتب توجيه المتشابه، وهي في معظمها مادّة تطبيقيّة. فنحن لم نعثر على نظريّة المناسبة مكتملة في أيٍّ من المصادر القديمة الّتي اطّلعنا عليها، وهو ما يُبرّر اعتمادنا على مدوّنة ضخمة شملت، إلى جانب كتب علوم القرآن السّابقة، كتبَ التّفسير لكلّ من الزّمخشريّ (ت 538هـ) والرّازي (ت 606هـ) وابن الزّبير (ت 708هـ) وأبي حيّان الأندلسيّ (ت 745هـ) والبقاعي (ت 885هـ) وابن عاشور (ت 1393هـ). وقد مثّل الإلمامُ بتلك المادّة الضخمة المبثوثة في آلاف الصفحات من كتب التّفسير، الّتي وجّه أصحابها عناية خاصّة للمناسبات بين الآيات".

الدراسات القرآنية
شوقي البوعناني

وأكد البوعناني أنّ نظريّة المناسبة تمثّل صيغة متقدّمة من صيغ نظريّة النّظم، كما تشكّلت لدى الزّمخشريّ على نحو خاصّ. وعلى الرغم ممّا يذهب إليه بعض الدّارسين من أنّ الزّمخشري اكتفى في تفسيره بإجراء نظريّة النّظم التي وضعها الجرجانيّ في تحليل الخطاب القرآني، فإنّنا نرى أنّ الزّمخشري كان رائد مدرسة بلاغيّة برأسها، ساهم في تأسيس رؤية بلاغيّة نراها أقرب إلى "تحليل الخطاب" من الرّؤية البلاغيّة السّائدة. فما قام به الزّمخشريّ في تفسيره لا يمكن أن ننظر إليه على أنّه مجرّد إجراء تطبيقيّ لما اهتدى إليه الجرجاني من قواعد المعاني والبيان، كما ذهب إليه صمّود في إثر عتيق مثلاً، وحتّى من تناولوا "إضافات الزّمخشري" مثل ضيف وعتيق، فإنّهم لم يتوقّفوا عند مساهمته في مجال نظم الخطاب، واكتفوا بالحديث عن بعض الإضافات الجزئيّة الّتي تدور في فلك نظريّة الجرجاني.
وأضاف أنه وجد أنّ قلّة من الدّارسين تفطّنوا إلى عدم تقيّد الزّمخشريّ بمفهوم النّظم في صيغته الجرجانيّة، وخروجه عن المبادئ التي وضعها الجرجاني للوصل والفصل بين الجمل، نظراً إلى أنّ مفهوم النّظم عند الزّمخشريّ أوسع من أن يتحدّد بتلك المبادئ؛ "لأنّ الّذي يواجه النصّ، ويعالجه علاجاً بلاغيّاً، لا يستطيع أن يلتزم بهذه الدّائرة الضّيّقة الخانقة" على حدّ عبارة محمّد أبي موسى في بحثه في "البلاغة القرآنيّة في تفسير الزّمخشريّ". وعلى الرغم من حرص أبي موسى في بحثه على استقصاء أثر الزّمخشريّ في الدّراسات البلاغيّة اللّاحقة، فإنّ اقتصاره على كتب البلاغة حرمه من الوقوف في نظرنا على أهمّيّة ذلك الأثر الّذي يلمسه الباحث في شروح الكشّاف أكثر ممّا يلمسه في كتب البلاغة. فنحن نلمس أثر هذه الرّؤية البلاغيّة الّتي أسّسها الزّمخشريّ في شروح "الكشّاف"، وفي جهود علماء المناسبات من أمثال ابن عاشور أكثر ممّا نلمسها لدى السّكّاكي والقزويني وشرّاحهما.
وتابع البوعناني "يمكن أن نعدّ مفهوم المناسبة امتداداً لمفهوم النّظم في صيغته الزّمخشريّة الّتي تمكّنت من تجاوز المستوى الموضعيّ للعلاقات بين أزواج الجمل إلى مستوى الخطاب، أكثر من كونه امتداداً لمفهوم النّظم في صيغته الجرجانيّة التي لم تفلح في كسر القيود النّحويّة، ولم تفلح في تجاوز إطار الأزواج من الجمل؛ بل إنّنا رأينا الجرجاني يقيس العلاقات بين أزواج الجمل على العلاقات بين الكلم في الجملة الواحدة. فالنّظم عند علماء المناسبة هو توخّي معنى الخطاب في معاني الجمل خلافاً للنّظم عند الجرجاني الذي يقوم على "توخّي معاني النّحو في معاني الكلم". ولعلّ هذا المفهوم للنّظم عند الجرجاني هو ما حمل صولة على رفضه واعتبار "نظريّة النّظم عند الجرجاني مغرقة في الضّيق وفي الذّاتيّة"، وإلى اعتبار بلاغة النّظم عاجزة عن استيعاب البعد الحجاجيّ في الخطاب القرآنيّ، وهو ما يتطلّب الانطلاق من بلاغة الحجاج".
وقدر إنّ "النّظم/المناسبة في مفهوم الزّمخشريّ، وكما تجلّى عند علماء المناسبة، وعند ابن عاشور على نحو خاصّ، أوسع ممّا هو لدى الجرجانيّ، وأقرب إلى بلاغة الحجاج منه إلى بلاغة العبارة. فالنّظم يقترن عند الزمخشريّ بترتيب المعاني، وهو يرتبط عند ابن عاشور بترتيب الحجج وبترتيب الخطاب. وكثيراً ما وجدنا أنّ ابن عاشور يتمثّل أجزاء السّورة الواحدة بالاعتماد على نموذج الخطبة التي تمثّل شكلاً من أشكال الخطاب الحجاجي، وهو يفسّر نظم الآيات في سلك السّورة بمدى نجاعتها في تحقيق الغرض الإقناعي للسّورة.