المهمّة المستحيلة في بريطانيا

حال رئيسة الوزراء تيريزا ماي يجسد غياب القيادة السياسية في أسوأ تجلياته.

لم تكشف استقالة رئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماي غياب القيادة السياسية عن بريطانيا فحسب، كشفت أيضا ازمة أوروبا في شكل عام. تحاول بريطانيا الهروب من ازمة أوروبا لتجد نفسها في ازمة اكثر عمقا واكثر سوءا كانت في غنى عنها. ما تعاني منه بريطانيا على وجه الخصوص يتمثّل في غياب الشخصية التي يمكن ان توصف بانّها قادرة على ممارسة دور ذي علاقة بالزعامة الحقيقية. شخصية تقود الشارع، مثل مارغريت تاتشر، التي حطّمت النقابات العمالية ونفوذها، ولا تنقاد له.

أصبحت تريزا ماي رئيسة للوزراء بعد استقالة ديفيد كاميرون في العام 2016 اثر استفتاء على خروج المملكة المتحدة من الاتحاد الاوروبي. أي انها كانت رئيسة للوزراء بالصدفة تولّت مهمّة مستحيلة. كان على ماي معالجة موضوع في غاية التعقيد، موضوع ولد من جهل اكثرية البريطانيين لمعنى بقاء بلدهم في الاتحاد الاوروبي والنتائج المترتبة على هذا الخروج - الكارثة الذي يسمّى "بريكسيت".

هناك مسؤوليات كبيرة يتحمّلها كاميرون الذي لم يحسن التمهيد للاستفتاء على "بريكسيت" وجعل البريطانيين يفهمون ان الخروج من الاتحاد الاوروبي الذي انضمّت اليه بريطانيا في العام 1973 هو كمن يطلق النار على قدمه. في النهاية انتصر مؤيدو الخروج من الاتحاد الاوروبي في الاستفتاء. كان الفارق ضئيلا. انتصر في الواقع الجهلة على الذين يمتلكون حدّا ادنى من المنطق. ما حصل اقرب الى مأساة من أي شيء آخر. لا يشبه استفتاء "بريكسيت" سوى انتصار رأي احد عشر غبيا على رأي عشرة عقلاء. لا يمكن اعتبار ذلك سوى كارثة ذات طابع مأساوي تسببت بها الديموقراطية.

لم يمتلك ديفيد كاميرون، الذي كان يعتقد ان نتيجة الاستفتاء مضمونة لمصلحة البقاء في الاتحاد الاوروبي، الحدس السياسي الذي كانت تحتاجه مرحلة التحضير للاستفتاء قبل ثلاث سنوات من الآن. استخف بسياسيين شعبويين، لا يعرفون شيئا عما يدور في العالم بل يحسنون اثارة الغرائز، مثل بوريس جونسون او نايجل فرّاج. لعب هؤلاء السياسيون ورقة الهجرة من دول أوروبا الشرقية التي انضمّت حديثا الى الاتحاد الاوروبي. لم يسأل أي من هؤلاء السياسيين الانتهازيين عن الدور الذي لعبته بريطانيا في توسيع الاتحاد الاوروبي كي تجد طريقة للحد من النفوذ الألماني – الفرنسي فيه. لم يسأل أي من هؤلاء لماذا يصعب الاستغناء عن البولونيين او الرومان او غير ذلك من الاوروبيين عندما يتعلّق الامر بخدمات الفنادق او المطاعم او اعمال البناء. كلّ ما في الامر ان بريطانيين ينتمون الى أصول متواضعة، بعضهم كان مستفيدا من مساعدات الاتحاد الاوروبي، صدّقوا اشاعات تقول ان الاوروبيين سيجتاحون بلدهم وسيأخذون وظائفهم، علما انّ ايّا من هؤلاء البريطانيين يرفض مثل هذا النوع من الوظائف التي يقبل عليها آخرون. ماذا سيحدث اذا غادر البولونيون وغيرهم بريطانيا الى غير رجعة؟ من سيحل مكانهم في قطاعات مختلفة؟

كان يمكن التعويض على المنطق الذي جعل حكومة ديفيد كاميرون تلجأ الى الاستفتاء عن طريق زعامة قويّة تشرح للبريطانيين ان خطأ جسيما حصل وان لا بدّ من إصلاحه. كانت تيريزا ماي كلّ شيء باستثناء الزعيم القادر على وضع شعبه امام مواجهة الواقع وجعله يواجه الحقيقة بدل الهرب منها.

يندرج تصرّف تيريزا ماي في سياق احداث توالت منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. ساهمت هذه الاحداث في جعل بريطانيا تدرك حجمها الحقيقي في عالم تغيّر كلّيا. كانت حرب السويس في العام 1956 المنعطف. اضطرت الإدارة الاميركية وقتذاك الى تذكير بريطانيا العظمى بانّها لم تعد عظمى. لو كانت عظمى بالفعل لما اضطرت الى الانسحاب من الهند جوهرة التاج البريطاني، ولو كانت عظمى، لما اضطرت الى وقف الحرب التي شنتها مع فرنسا وإسرائيل بعد تأميم جمال عبدالناصر لقناة السويس. وقتذاك، اتصل جون فوستر دالس وزير الخارجية الأميركي بانطوني ايدن رئيس الوزراء البريطاني وطلب منه وقف حملة السويس. كلّ ما في الامر، انّ الرئيس دوايت ايزنهاور كان غاضبا من شن عدوان ثلاثي على مصر من وراء ظهر الولايات المتحدة التي حالت دون سقوط أوروبا تحت سيطرة هتلر في الحرب العالمية الثانية.

انصاع ايدن وانصاعت فرنسا وانصاعت إسرائيل وظنّ جمال عبدالناصر انّه حقّق انتصارا على بريطانيا وفرنسا وإسرائيل مجتمعة!

منذ حملة السويس ونتائجها، بدأت بريطانيا تعي معنى ان تتحوّل الى دولة عادية وصولا الى الاعتراف بانّ لا غنى لها عن أوروبا التي وافقت أخيرا على انضمامها الى الاتحاد الاوروبي. استعادت بريطانيا حيويتها، اقتصاديا، على الرغم من انسحابها من شرق قناة السويس، بما في ذلك ميناء عدن الاستراتيجي في العام 1967. لعبت مارغريت تاتشر دورا محوريا في جعل المملكة المتحدة تستعيد موقعا لها على خريطة العالم استنادا الى ثلاث ركائز هي الإصلاحات التي نفّذتها على الصعيد الداخلي بدءا بتحرير الاقتصاد والقضاء على سلطة النقابات العمالية. اما الركيزة الثانية، فكانت أوروبا. جذبت بريطانيا شركات اوروبية كبيرة ارادت الاستفادة من تحرير الاقتصاد البريطاني. كانت الركيزة الثالثة العلاقة المميزة بين واشنطن ولندن.

كانت بريطانيا في كلّ وقت الطفل المدلّل في الاتحاد الاوروبي. مكّن ذلك السوق المالية للندن من ان تصبح بين الاهمّ في العالم. لم تنضم بريطانيا الى العملة الموحدة (اليورو) وحافظت على تأشيرة خاصة بها بعد رفضها الانضمام الى معاهدة شنغن. حافظت على مزايا كثيرة خاصة بها... الى ان ظهرت طبقة جديدة من السياسيين الذين يصنعون مجدا من خلال المزايدات الرخيصة.

بدأت تظهر الآن آثار غياب مارغريت تاتشر. يكفي للتأكد من ذلك المقارنة بين المرأة الحديدية وتريزا ماي التي أمضت ثلاث سنوات رئيسة للوزراء ولم تستطع في يوم من الايّام الاعتراف بانّها امام مهمّة مستحيلة وانّ لا خيار آخر امام بريطانيا سوى تجاوز نتائج الاستفتاء عبر استفتاء آخر تسبقه حملة مدروسة. تستهدف مثل هذه الحملة افهام البريطانيين بلغة الأرقام ان الخروج من الاتحاد الاوروبي سيجلب على بلدهم الويلات، بما في ذلك احتمال وصول زعيم حزب العمال جيمس كوربن، وهو شخص يساري، الى موقع رئيس الوزراء...

ليست بريطانيا وحدها من يحتاج الى زعيم سياسي يضع المواطن امام مسؤولياته بعيدا عن انصاف الحقائق التي روّج لها داعمو الخروج من الاتحاد الاوروبي. أوروبا كلّها تعاني من المشكلة نفسها. لم يبق من زعيم أوروبي غير المستشارة الألمانية انجيلا ميركل التي لم يعد بعيدا اليوم الذي تعلن فيه تقاعدها. ستظلّ المانيا المانيا، بسبب قوّة اقتصادها وشركاتها الكبيرة وتوق الالمان الى العمل ساعات طويلة، على العكس من الفرنسيين الذين لا يفكّرون سوى بالاجازة المدفوعة والتعويضات والخدمات التي تقدّمها الدولة.