الموروث الشعبي الخليجي كنز قادر على إثراء الفضاء المسرحي

المشاركون في جلسات ملتقى المسرح الخليجي يؤكدون على أن الموروث الشعبي يشكّل منبعا مهما للعديد من التجارب المسرحية في بلدان الخليج.
هناك من سعى إلى إحياء التراث لتسليط الضوء على الحاضر وكشف اختلالاته
الفنون الشعبية المغناة والمعتمدة على الحركة تعتبر من الأشياء الجاذبة للجمهور

واصل الملتقى الفكري - الذي عقد في إطار فعاليات مهرجان الشارقة للمسرح الخليجي في دورته الثالثة على مدار يوم كامل - استكمال وتجديد النقاش حول رهانات وتحديات توظيف الموروث الشعبي في المسرح الخليجي المعاصر، وبصفة خاصة فنون الأداء الشعبي من صوت ورقص واحتفالات.. إلخ، وذلك استنادا على محورين / تساؤلين الأول: ما الذي أضافه وحققه وضع التراث في قلب الممارسة خبرات صناع العروض واستجابات الجمهور بمرور السنوات وتنوع التجارب؟ والثاني: إلى  أي مدى انعكس تطور الوعي المسرحي وازدهار أدوات وتيارات المسرح في العالم على منهجيات وطرق توظيف التراث في التجربة المسرحية الخليجية؟ 
وأكد المشاركون في جلسات الملتقى على أن الموروث الشعبي بمجمل عناصره السردية والأدائية والجمالية والفكرية، شكّل منبعا مهما للعديد من التجارب المسرحية في بلدان الخليج لا سيما في مرحلة البدايات حيث وظفت موضوعات وثيمات التراث الشعبي في بنية العرض المسرحي، بهدف التواصل والانسجام مع وجدان وعقل الجمهور المحلي الذي كان قد تعرف على الفن المسرحي حديثا، أو بمسوغات مثل نيل القبول والاعتراف الاجتماعي والتعبير عن الهوية وترجمة الخصوصية الثقافية.. إلخ. 
وفي فترة لاحقة زادت وتباينت مناهج وطموحات التجارب المسرحية الخليجية في توظيفها الموروث الشعبي، فثمة من سعى إلى إحياء التراث "لتسليط الضوء على الحاضر وكشف اختلالاته، وهناك من قصد إلى عصرنة التراث لتجسير المسافة بين الحاضر والراهن والمستقبل، وهناك من طمح إلى مواجهة ونقد الموروث الشعبي احتفاء بتطور المجتمع وتقدمه. ومثلما استثمرت بعض التجارب المسرحية الموروثات الشعبية بهدف تخصيب وتنويع أطرها وحلولها الإخراجية، وللتعبير عن رؤاها وأفكارها التجديدية والمتخطية لما رسخ وتكرس من مواضعات وتصنيفات ومعايير مسرحية وثقافية، هناك تجارب أخرى بدت كما لو أنها اتخذت الفن المسرحي إطارا لتقديم وتكريس المادة التراثية وليس العكس".

علينا كمسرحيين أن نعيد النظر في الفنون الشعبية المعتمدة على الغناء والحركة والموضوع المرتبط بحياة الإنسان وإعادتها إلى الحياة من خلال استغلالها على خشبة المسرح

شارك في جلسات الملتقى التي أدارها الناقد والمسرحي الكويتي فيصل القحطاني نقاد ومخرجون من مختلف الدول الخليجية: العماني جاسم البطاشي، الإماراتي مرعي الحليان والسعودي د. سامي الجمعان، والكويتية سكينة مراد، والبحرينيون يوسف الحمدان، عبدالله يوسف، وعبدالله سويد. 
في الجلسة الأولى وفي إطار قراءته لتطويع فنون الغناء الشعبي الخليجي لخدمة العرض دراميا تطرق الناقد السعودي د. سامي الجمعان إلى أضلاع ثلاثة: العرض المسرحي، الفن الشعبي الغنائي، المخرج المسرحي الخليجي، رابطا بينها للكشف عن مدى التأثر والتأثير بين مجالي الموروث الشعبي وفن المسرح، خصوصا أننا حيال موروث شعبي ضخم تتنوع أشكاله فتشتمل على الشعر والغناء والموسيقى والمعتقدات الشعبية والقصص والحكايات والأمثال والعادات والتقاليد والطقوس والأساطير الاجتماعية. 
وحلل الجمعان عرضين للمخرج الكويتي عبدالله العابر: مسرحية البوشية التي قدمت عام 2012 وهي تأليف الكاتب الإماراتي إسماعيل عبدالله، ومسرحية غفار الزلة التي قدمت عام 2017 تأليف الكاتب العماني محمد المهندس اليافعي. وقال أول ما توقف عنده في تجربة العابر هو بروز مستويين في تعاطيه مع الفنون الغنائية الشعبية وهما: مستوى التوظيف الدرامي بمعنى استثمار الطاقة الدرامية الهائلة التي تتوفر عليها الفنون الشعبية، مع تميز هذا الاستثمار بوعي عميق يتضح من خلال تعمد العابر ضخها في جسد العمل المسرحي عن قصد بهدف مضاعفة الجرعة الدرامية التي يوفرها النص أصلا، أما المستوى الثاني في رؤيته هو المستوى الفرجوي أي استثمار للطاقة الفرجوية في الفنون، فتركيزه على دراميتها لم يمنعه من الاستفادة من طاقتها الفرجوية الماتعة والتي يرى أنها طاقة قادرة على خلق حالة تأثير وجداني تواصلي بين العرض والمتلقي.
وأكد الجمعان أن ثمة رؤى إخراجية خليجية بلورت فكرة التوظيف الواعي للفنون الشعبية مسرحيا، وتبين ذلك من خلال وضع الفن المناسب بجوار الحدث الدرامي المناسب ومن خلال تعميق الدلالات باستخدام هذه الفنون، على سبيل المثال جاء فن الهيدان لوضع الغناء موضع اختبار في لحظة الحزن، وهي حالة مغايرة لما اعتدناه. 
أما فن القادري فساعد على اختصار زمن الأحداث الدرامية فمن خلال تصاعد إيقاعه فقد عبر العابر عن فترة شهور الحمل من الشهر الأول حتى التاسع وبجميع تحولات المرأة فيها الفسيولوجية والسيكولوجية وصولا إلى لحظة الولادة والتطهير، وبالتالي لا يمكن عد ذلك كله مصادفة أو مجرد توظيف عابر أو استهلاك مجاني لهذه الطاقات الدرامية المتوفرة في فنوننا الشعبية.
واستنادا لمتابعته ورصده لجملة من التجارب المسرحية الواعدة في بلدان الخليج التي شكل الموروث الشعبي بمجمل عناصره ومكوناته وموضوعاته مرجعية لها وخزين مادة فكرية ودرامية خصيبة لصياغة النصوص ومشاريع العروض المسرحية، ترسخت لدى المسرحي البحريني عبدالله يوسف - كما قال - قناعة بأن من مستلزمات التجربة المسرحية الخليجية المعاصرة والمشتغلين فيها من عناصر شابة واعدة، إعادة تأمل وتقييم مشاريع عروضهم التي أضحت منصرفة عن الموروث الشعبي، بمبادرة الالتفات إليه وإعمال البصيرة والبصر في مكوناته لانتقاء ما يغذي ويعبيء مخيلة المربع المبدع للعرض المسرحي "المؤلف/ المخرج/ مصمم الفضاء السينوغرافي / المتلقي" بالكثير المدهش الذي يحفل به المنجز االحياتي الخليجي في رباعية مكوناته التاريخية ونسيجه الاجتماعي البحري والزراعي والصحراوي والمدني.
ورأى الناقد المسرحي البحريني يوسف الحمدان أن المسرح الخليجي بشكل عام منذ سبعينيات القرن الماضي وحتى منتصف التسعينيات منه ظل أسيرا للموروث الشعبي الأدائي والحكائي بمضمونه وشكله المعهود والمتعارف عليه بوصفه المادة الخام التي يتكئ عليها هذا المسرح في معالجاته الدرامية في أغلب عروضه المسرحية، والتي يجد ضالته فيها بالتعبير عن مواقفه الفكرية ورؤيته الفنية، وقد حملت أغلب هذه العروض عناوين تدرك من خلالها فحوى المعالجة الدرامية ونتائجيتها اللتين اتكأ عليها المخرجون لهذه العروض، مثل "توب توب يا بحر"، "الغواص واليريور"، و"أوه يامال"، و"الوريث واللؤلؤ"، و"آه يا بحر"، و"البوم"، و"بنت النواخذا" و"نواخذة الفريج" وغيرها، وكلها عروض مسرحية تحتفي بالبحر والغوص وظلم النواخذة للغاصة، وتكريس لواقع اجتماعي لا يتجاوز حدود ماضيه بالرغم من التحولات الهائلة التي حدثت في الخليج العربي إبان الطفرة النفطية التي اتضحت ملامحها بشكل جلي في منتصف ثمانينيات القرن الماضي، كما اتكأت على إسقاطات لا تتماشى وهذه التحولات الهائلة، وكما لو أن فسح المخيلة في هذه العروض ظل محدودا ومراوحا لا يمكن أن يتجاوزها إلى ما هو أبعد وظل مستهلكا إلى درجة ممجوجة من كثرة استخدامها حتى باتت العروض تشبه بعضها وإن اختلفت في العناوين والأسماء ومواقع العرض.

ولفت الحمدان إلى أن انطلاقة المهرجانات المسرحية في الوطن العربي وتحديدا في قرطاج تونس وتجريبي القاهرة في نهاية الثمانينيات وانفتاح الفرق الأهلية والطليعية الخليجية عليها والمشاركة فيها، تغيرت الكثير من الرؤى المسرحية في قراءتها ومشاكستها للموروث الشعبي في بلدانها، خاصة مع توافر بعض المخرجين المسرحيين الخليجيين على ورش مسرحية تعني بقراءة الموروث الشعبي وكيفية توظيفه في العروض المسرحية. 
كما أن هذه المهرجانات الدولية أتاحت الفرصة أيضا لمسرحيينا الخليجيين للتعرف والإطلاع على المناهج والرؤى المختبرية الحديثة التي من شأنها أن تفتح مجالا واسعا أمام المخرجين لاختبار هذا الموروث في شكله الخام ومنحه بعدا جماليا وسيميائيا جديدا في عروضهم المسرحية، خاصة فيما يتعلق بفنون الجسد والفنون البصرية والتقنية وفن الكوريغرافيا واتجاهات حديثة عدة، ولعلنا نلمس هذا التعاطي أو هذا التأثير في عروض مسرحية خليجية حديثة في مسرحنا الخليجي، وخاصة في قراءتها للموروث الشعبي من منطلقاته الأدائية، حركيا وطقسيا.
وخلص الحمدان إلى أن الأهم والأبرز الوعي بأن انعطافة الإبداع الفني في الحضارة الجديدة نحو آفاق التجريب والحداثة وما بعد الحداثة، يضع صناع المسرح الخليجي أمام تحديات مختبرية جديدة في كيفية ملامسة تلك الآفاق والتماهي مع معطياتها الفكرية والعملية الجديدة، لإنتاج مشاريع مسرحية جديدة تنبثق مضامينها وفضاءاتها من الحكايات والأحداث والشخصيات التي لا يزال يُحفل بها الموروث الشعبي في الخليج، بمجمل عناصره السردية والأدائية والجمالية والفكرية التي يتطلبها فن المسرح في الراهن المعاش، وتتطلبها بصمة الخصوصية المسرحية المنشودة والمبتغاة.  
وأشارع المخرج والممثل العماني جاسم البطاشي أنه في الوقت الذي تتشابه فيه العروض المسرحية التي تقدم في الوطن العربي سواء ضمن المهرجانات أو بشكل مستقل هاجر المتلقي العادي للمسارح الجادة واتجه إلى المسارح التجارية التي تقدم في معظمها محتوى فارغا ولم يتبق في المسارح الجادة غير المشتغلين في المسرح أو النخب، وهذا ما يتطلب إضافة عناصر اشتغالية جديدة في المسرح، لذلك تأتي الفنون الشعبية المعتمدة على الغناء والرقص كونها قريبة من المجتمع هي الطريقة الأمثل والأداء الأفضل لجذب الجمهور العادي من أجل العودة ومشاهدة عروض مسرحية جادة.
وأكد البطاشي أن الفنون الشعبية المغناة والمعتمدة على الحركة تعتبر من الأشياء الجاذبة للجمهور في الوقت الذي تشابهت فيه الأشكال المسرحية وانحرفت في بعض أشكالها إلى أماكن غير ذات قيمة وأصبح لزاما علينا كمسرحيين أن نعيد النظر في الفنون الشعبية المعتمدة على الغناء والحركة والموضوع المرتبط بحياة الإنسان وإعادتها إلى الحياة من خلال استغلالها على خشبة المسرح وهو ما سيضمن عودة الجماهير المختلفة وخاصة التي لا ترتبط بحضور العروض المسرحية دائما وذلك البريق الذي تتميز به الفنون الشعبية وكذلك العناصر الجاذبة للناس وهو أمر أصبحنا بحاجة إليه.
وتطرق البطاشي إلى نماذج من الفنون الشعبية العمانية مثل النيروز والباكت والرزحة، وختم مؤكدا أن إشراك الفنون الشعبية وخاصة المغناة لصناعة عروض مسرحية تعتمد على الفرجة الاحتفالية أمر أصبح مهما جدا في ظل استقطاب الجمهور الذي ابتعد عن المسرح.
وحللت الناقدة المسرحية الكويتية سكينة مراد عددا من العروض الكويتية المعاصرة التي اعتمدت على الموروث الشعبي لتكشف على الكيفية التي تم بها توظيف الموروث في النص والعرض، منها مسرحية "البوشية" للكاتب الإماراتي إسماعيل عبدالله وإخراج عبدالله العابر، ومسرحية "غفار الزلة" للكاتب العماني محمد المهندس وإخراج عبدالعابر أيضا، ومسرحية صالحة تأليف وإخراج أحمد العوضي، ومسرحية الموجب تأليف وإخراج محمد الحملي.