الموسيقى ترسم صورا لأناس لم يسبق لك رؤيتهم

الموسيقولوجي كورت زاكس يرفض النظريات التي تزعم أن الإنسان الأول توصل إلى الموسيقى بالمحاكاة.
اختصاصيو الموسيقولوجيا العرقية يهتمون بدراسة كافة أنواع الموسيقات في سياقاتها الثقافية والاجتماعية
لكل مجتمع بشري موسيقاه

القاهرة ـ من أحمد رجب

"على من يريد أن يعرف أصل الموسيقى ونشأتها الأولى أن يقرأها في البقايا المتحجرة في حياة البدائيين في عصرنا هذا". 
هكذا تحدث العلامة الموسيقولوجي كورت زاكس، وهو يؤرخ لنشأة الموسيقى معربا عن رفضه للنظريات التي تزعم أن الإنسان الأول توصل إلى الموسيقى بمحاكاة تغريد الطيور، أو أنه غنى ليدخل السرور إلى نفسه، أو أنه اشتق الغناء من صيحات ممدودة للتنبيه أو النداء، أو عن طريق العمل الجماعي على إيقاع منتظم.
 وكان زاكس بذلك الرأي يضع لبنة مهمة في علم إثنولوجيا الموسيقى، أو الموسيقولوجيا العرقية، وهو علم يجمع بين تاريخ الموسيقى وعلم الأنثروبولوجيا. ويختص دارسوه بالتسجيلات الصوتية وتحليلها، ثم تفسير ظواهر الموسيقى البدائية في صورها وأنماطها المختلفة.
ويهتم اختصاصيو الموسيقولوجيا العرقية بدراسة كافة أنواع الموسيقات في سياقاتها الثقافية والاجتماعية، للوقوف على كيفية تعبيرها عن هويات الشعوب، وهذا العلم الناشىء في أربعينيات القرن العشرين قد اتسع نطاقه كثيرا في نهايات القرن، وأنشئت له أقسام متخصصة في الجامعات الأميركية والأوروبية. 
وقد شارك تسعة موسيقيين من رواد هذا العلم الحديث، في الولايات المتحدة في تأليف كتاب "عوالم من الموسيقى.. مقدمة لموسيقى شعوب العالم"، وفيه يسلطون الأضواء على أنواع  مختلفة من الموسيقى حول العالم من واقع بحوث ودراسات ميدانية تهدف للتعريف بالموسيقى الشعبية وجذورها في مختلف المناطق وبين الشعوب والتجمعات العرقية.
الكتاب الضخم حرره جيف تود تيتون، عازف الجيتار وأستاذ الموسيقولوجيا العرقية بجامعة براون الأميركية، ونقله إلى العربية المترجم المصري حسام الدين زكريا، وصدر في مطلع هذا العام بالقاهرة عن المركز القومي للترجمة، في ثلاثة مجلدات زاد عدد صفحاتها عن الألف وخمسمائة صفحة من القطع الكبير.
ليست عالمية
لكل مجتمع بشري موسيقاه، ورغم كون الموسيقى عالمية إلا أن معناها ليس كذلك، هكذا يقول جيف تود تيتون في دراسته، قاصدا أن المعنى الذي يصل للمستمع يختلف من شخص لآخر، وليس فقط من بيئة ثقافية لأخرى، ويضيف أن الموسيقى فن عالمي لكن ليست لغة عالمية، بمعنى أن كل منا قد يفهم ما تقوله الموسيقى بطريقة مختلفة عما قد يفهمه الآخرون، فالشعوب المختلفة هي التي تمنح الموسيقات معانيها وفق ثقافات هذه الشعوب، وبحسب فهم الثقافة على أنها أسلوب معين لممارسة الحياة. 
ويذكر مثالا بانجلترا في العصر الفيكتوري، فالناس هناك رأوا أن موسيقات شعوب الإمبراطورية مجرد أصوات "غريبة"، لأنها لم تكن مدونة "كما يجب أن تكون عليه الموسيقى الصحيحة"، ورأوا في سلالم الراجا الهندية "مؤشرا على سوء الاستقبال من الأذن". 
يعلق تيتون على ذلك بالتأكيد على أن الإنجليز لم يتمكنوا من فهم الموسيقى الهندية بدلالة المفردات الثقافية الخاصة بها، عندئذ ستبدو كل الأصوات الموسيقية نشازا عندما يتم الحكم على نظام ضبطها بمعايير أخرى. فلن نستطيع أن نفهم الموسيقات المختلفة حول العالم بمعزل عن دلالة مصطلحاتها ولغتها الخاصة، أي نتعامل معها وفق الشكل الذي تظهر به الثقافات الموسيقية المختلفة، وبدون ذلك لن نتمكن من الوقوف على التباينات بين موسيقات الشعوب المختلفة ومن ثم عقد المقارنات بينها.
وفي محاولة لتفادي تكرار مثل سوء الفهم هذا عالجت الفصول التسعة (من الثاني إلى العاشر) موسيقات شعوب العالم من خلال دراسات ميدانية لأساليب موسيقية إقليمية تنتمي لعرقيات منتشرة في كل قارات العالم، موضحة ما يصفه أحد الباحثين بكيف ترسم الموسيقى صورة لأناس لم نقابلهم في حياتنا وتصور لنا أماكن لم تطأها أقدامنا من قبل؟ بينما في الفصل الأول يقدم جيف تود تيتون نموذجًا للثقافة الموسيقية يعتمد على الموسيقى أثناء أدائها، بما في ذلك الصوت والبنية المتعلقة بالثقافة والمجتمع.  
ويختتم الكتاب بالفصل الحادي عشر، وفيه توضيح لكيفية إجراء العمل الميداني في مجال  الموسيقى العرقية.
شتات الموسيقى العربية
  درست الباحثة آن رازموسين الموسيقى العربية باعتبارها نافذة على الثقافة والتاريخ ومرآة لأفكار الناس، وذلك فيما تسميه بالشتات العربي، وهي تقصد بذلك ما يقدمه العربي المغترب في منفاه من موسيقى، كما تناولت الموسيقى العربية في علاقتها بالدين الإسلام وتأثرها  في مرحلتها الحديثة بالموسيقى الغربية.
ابتداء من منتصف القرن العشرين تسببت الموسيقى التصويرية لأفلام سينمائية مثل كازابلانكا، ولورانس العرب، في تشكيل صورة المشهد الصوتي للصحراء العربية  مترامية الأطراف، فأذكت الخيال الغربي بصور عن الإنسان العربي باعتبار الموسيقى خير ممثل للناس والأماكن، لكن الباحثة تدع الخيال ذاهبة إلى الواقع لتدرس الموسيقى العربية من خلال التخت، وهو فرقة من سبعة عازفين عرب شباب يعيشون في ماساتشوستس الأميركية، وقد استمعت إلى عزفهم لإحدى مقطوعات محمد عبدالوهاب، وتستخدم الباحثة مصطلح "التخالف الصوتي" للتعبير عن أداء التخت بآلاته وعازفيه، حيث ترى فيه سمة غالبة على الموسيقى العربية وبالرغم من ذلك أهملها الدارسون.
وترصد سمة ثانية متمثلة في صيحات الإعجاب والاستحسان التي يبديها المستمع العربي للموسيقى، فالجماهير بذلك تشارك في صنع الموسيقى بدلا من الاستماع في صمت، وهي بذلك توحي للمستمع غير العربي بأنه يستمع لحدث مثير، وهذا التفاعل بين الجمهور والعازفين يعمل كحافز مساعد في الوصول لحالة الطرب وهو لب جماليات الموسيقى العربية، كما أنه يترجم بشكل تقريبي حالة النشوة.
وتدرس الباحثة تلك الفرقة كحالة لموسيقى الشتات العربي حيث قضى العازفون الشباب وكذلك جمهور المستمعين فترات كبيرة من أعمارهم في الولايات المتحدة، وبالتالي ضعفت عندهم أو اختفت عمليات التفاعل مع توجيهات اللغة والثقافة والموسيقى، وبذلك شكلت لها فرقة التخت مثالا لفكرتها عن البحث في الثقافات الموسيقية خارج الحدود وكيف يكون مفتاحا لفهم موسيقى شعوب العالم. وخصوصا أن العالم العربي ليس قارة مغلقة كأفريقيا السوداء بل أن مناطقه تمتد عبر قارتي آسيا وأفريقيا، وتضم حشدا من الجماعات العرقية، والديانات، وتعتبر بلدانه شاهدة على التنوع بين الاستعماري والمعاصر. فكيف تنتج موسيقى واحدة رغم ذلك؟ وتجيب بأن مرد ذلك إلى الرموز الثقافية الرئيسية المشكلة لوجدان الناس في تلك المناطق، مثل اللغة والشعر والكتل البنائية للموسيقى وإيقاعاتها. (خدمة وكالة الصحافة العربية).