الموسيقى .. فن ما قبل التاريخ

برنارد شامبينيول بذل جهدا في إقامة نسب عادلة عند تصنيف الأحداث الموسيقية وبيان الأسباب العامة في حدوثها.
الكتاب ليس موجها للموسيقيين وحدهم وإنما أيضا لهواة الموسيقى ولمن يعنيهم أمرها
الموسيقى إحدى وسائل التعبير الطبيعي في المجتمع

القاهرة ـ من أحمد مروان

هل يمكن دراسة الظواهر التاريخية الموسيقية بمعزل عن تطور المسائل الفنية؟ لقد بذل برنارد شامبينيول مؤلف كتاب "عالم الموسيقى" جهدا في إقامة نسب عادلة عند تصنيف الأحداث الموسيقية وبيان الأسباب العامة في حدوثها، وتسلسل الصلة بين مختلف الفنانين واستخلاص نظام للمؤلفات تتعاقب فيه، وتتسلسل بقدر ما تسمح به الحدود المرسومة لهذا الكتاب، الذي صدر في طبعة جديدة عن وكالة الصحافة العربية – ناشرون. 
كما حاول من جهة أخرى وضع التراث الموسيقي المتعدد الأنواع في عصوره وبقاعه التي نشأ وانتشر منها فضلا عن دراسته فيما أحاط به من تيارات فنية أو أدبية أو دينية أو سياسية، فالموسيقى باعتبارها إحدى وسائل التعبير الطبيعي في المجتمع لا يعقل أن تكون متأخرة بنحو مائتي عام عن سائر وسائل التعبير الأخرى – فهي مرآة واضحة للتقاليد والأخلاق السائدة في حياة العصور، ومن ثم تكون على اتصال وثيق بغيرها من سائر الفنون.
يقول المؤلف "لم نوجه هذا الكتيب للموسيقيين وحدهم وإنما أيضا لهواة الموسيقى ولمن يعنيهم أمرها. لهذا فقد تجنبنا الخوض في النظريات كما تجنبنا أيضا الالتجاء إلى المصطلحات الفنية ما استطعنا إلى ذلك سبيلا. وكما يمكن في عالم الآداب دراسة تراجم الأدباء ومؤلفاتهم بل والتاريخ الأدبي نفسه بمعزل عن قواعد اللغة ومصطلحاتها، كذلك الحال في الموسيقى، فرغما عن أن تاريخها يكون على وثيق الصلة بتطورات المصطلحات الموسيقية الفنية، إلا أنه يمكن أيضا دراسة الظواهر التاريخية الموسيقية، بمعزل عن تطور المسائل الفنية".
الفنون الأخرى

إن علاقة الموسيقى بالفنون الأخرى هي علاقة وثيقة، وتتسلسل التيارات الموسيقية منذ عهد الأسقف بيروتان الأكبر الذي طالما كانت أناشيده يرددها المنشدون داخل الكنائس القوطية، ثم عصر لوللي الذي اتسمت موسيقاه بطابع فرساي في عهد لويس الرابع عشر، فعصر بيتهوفن الذي يمكن أن يعد الرمز الكامل للتحول نحو الحركة الرومانتيكية الكبيرة إلى أن نصل أخيرا إلى عصر سترافنسكي، الذي تشبه حركته التي قام بها في الموسيقى بوجه عجيب ما قام به بيكاسو، في فن الرسم ونحن لا نلاحظ في هذا التسلسل الموسيقي أي فجوة أو تباعد بين هذا الازدهار للموسيقى وبين العصر الذي انتشرت فيه، ففي كل عصر تطابق الفنون، أيا كان نوعها، نظام الفكر وطابعه اللذان يسير عليهما العقل الإنساني.
وإذا رجعنا إلى الماضي الغابر وقطعنا في ذلك أشواطا بعيدة ومهما ابتعدنا في الزمن لا بد وأن نلتقي بالموسيقى، نصادفها ولكننا لن نستطيع إخضاع صورها الأولى إلى البحث والتحليل، في حين أننا نستطيع أمام ما نجده من لوحات منقوشة من عمل الإنسان الأول في عصور ما قبل التاريخ بأن نقطع بأننا بصدد فن ما قبل التاريخ وإزاء هذا الغموض الذي يكتنف مجال الموسيقى البدائية لا يمكننا إلا تلمس الفروض والاحتمالات لتفسير ما يصادفنا منها حتى نصل إلى عصور تقرب إلى حد ما من عصرنا.
ومع ذلك يمكننا أن نقطع بأن الموسيقى على غرار سائر الفنون التي على وثيق الصلة بها كالرقص والتمثيل الإيمائي والشعر والمسرح، تنحدر من أصل ديني. 
يقول المؤلف: "منذ نصف قرن درست موسيقى الشعوب التي لم يكن لها اتصال بالمدينة الأوربية (وهم من يسمونهم تسمية تعسفية إلى حد ما بـ "البدائين”) كزنوج أفريقيا والهنود الحمر بأميركا والبولينيزيين وغيرهم… ويبدو أن نظريتنا الموسيقية تدين بأصولها إلى بعض قواعد فطرية عامة يشترك فيها كافة البشر، فتجد الموسيقى عند الأقدمين كما هي الحال عند البدائيين بسيطة في أصولها وتتميز ببروز قوي في إيقاعها. كما أن طابعها يتسم بالمسحة الدينية ويتصل بطقوس معتقداتهم. ومن جهة أخرى فالإنسان عندما يقوم عادة بمجهود جسماني ويأتي حركات مرادفة بجسمه فإن هذه الجهود والحركات كثيرا ما تكون مصحوبة بإخراج أصوات. وفي هذا ما يعد أساس الأغاني المهنية، التي يقصد منها تنظيم حركات الجسم وتوجيهها ليسهل بذلك تأدية العمل".
حدود السلم الموسيقي
وتبدو لنا اليوم هذه الموسيقى البدائية على الرغم من وفرة تنوعها غاية في البساطة، إذ لا تسير الميلودية (الألحان) المشتملة عليها في انتقالاتها بأنغامها إلا في حيز ضيق من المسافات المقامية المحدودة فهي بوجه عام تقوم على أساس خماسي المقامات، بمعنى أنها توجد في حدود السلم الموسيقي ذي الخمسة مقامات وحسب، وهذا السلم الخماسي لا يزال شائعا عند الشرقيين. 

الكتاب يقع في خمسة فصول
أخذ الرومان عن الموسيقى الإغريقية 

ولكن الموسيقى الإغريقية هي وحدها التي استطعنا معرفتها عن طريق تحليل الشراح لنظرياتها. وفوق ذلك فقد عثر على بعض أجزاء متفرقة من مؤلفاتها الموسيقية، وهي تقوم على أساس سلالم موسيقية من ذات السبعة مقامات المتسلسلة في هبوط. كما تشتمل أساسا على ألحان غنائية يصاحب إيقاعها أوزان الشعر وقوافيه ولم تكن إلى جانب ذلك هناك ما نسميه اليوم بالمصاحبة الموسيقية للغناء، فالآلات الموسيقية كانت تكرر نفس الميلودية ولا تخرج عن حدودها وكانت تلك الآلات عبارة عن الليرا والأولوس وهو نوع من المزمار البوص ركب على أحد طرفيه مبسم، ولا شك أن الوسائط التي استخدمتها الموسيقى الإغريقية وهذا النوع من الموسيقى أيضا لم يعد يشجينا، ولكننا لا نشك فيما كان لها من الأثر العظيم على المستمعين في ذلك الحين.
وقد كان للنظرية الموسيقية التي استنبطها فيثاغورس وتوسع فيها أرسطو ما أكسب الموسيقى مركزا خطيرا من الناحية الاجتماعية والخلقية، وقد اعتبر حينذاك أن الأنغام الصوتية على اختلاف أنواعها وكذلك طابعها المتنوع وصيغها المنفردة عاملا من العوامل الفعالة في رقي الإحساسات وتنمية العواطف الإنسانية.
وقد أخذ الرومان عن الموسيقى الإغريقية غير أنهم نزلوا بها في التبسيط إلى مستوى العامة ولم يكونوا يولونها إلا دورا ثانويا في مجتمعهم فاستخدموها فقط كأسلوب من أساليب الترفيه العامة فأفقدوها الكثير من مكانتها الرفيعة وصفاتها العالية في المجتمع.
والكتاب يقع في خمسة فصول؛ تناول الفصل الأول المصادر الأولى للموسيقى، أما موسيقى القرون الوسطى فكانت موضوعا للفصل الثاني، ثم تلاه الفصل الثالث وتناول الموسيقى في عصر النهضة، وأعقبه الفصلان الرابع والخامس عن الموسيقى في القرن السابع عشر والقرن الثامن عشر. أما الفصل السادس فكان موضوعه عرش الرومانتيك. وجاء الفصل الفصل السابع والأخير من الكتاب متناولا  الموسيقى في عهد فاجنر إلى المعاصرين .(وكالة الصحافة العربية)