المونديال درس جيوسياسي لوسائل الإعلام


لسوء الحظ، في وسائل إعلام دول المنتخبات العربية المشاركة في المونديال وفي تصريحات المسؤولين العرب. ثمة تهريج سياسي بصبغة رياضية حث على الخلاف والكراهية.

ماذا عن المعركة السياسية لدول الغرب مع فلاديمير بوتين فيما مهرجان المونديال يستمر في روسيا بنجاح قل نظيره؟

إذا كنت تتحدث عن السياسة فإن الإجابة غير معروفة بالنسبة لوسائل الإعلام، لأنها لا تثق بكلام بوريس جونسون عن بوتين تحديدا، وإذا كنت تتحدث عن كرة القدم فهذه قصة أخرى لم يخفت بريقها ولن تهمش في وسائل الإعلام أرضاء لنزوات سياسية.

التلفزيونات والصحف البريطانية والمعلقون لم يعيروا انتباها للخطاب الناري الذي توعدت به تيريزا ماي روسيا بعد عملية تسميم العميل الروسي السابق سيرجي سكريبال وابنته يوليا في مدينة سالزبيري البريطانية، ومع أنها لم تتعهد بإفشال المونديال لكنها منعت أيا من أعضاء حكومتها من حضور فعالياته، إلا أن أيا من المعلقين والصحافيين لم يفكروا أصلا بمقاطعة المهرجان الكروي العالمي.

هذه العلاقة مع كرة القدم بوصفها أداة جيوسياسية معاصرة تمنحنا درسا إعلاميا باهرا، لسوء الحظ لم يتعلم منه الإعلام الرسمي العربي، فمعاركه مستمرة وآخر ما يفكر فيه الفلسفة الجماعية لكرة القدم ولا حرب الشماتة البغيضة التي زاد حدتها مستخدمو وسائل التواصل الاجتماعي كاشفين عن ضحالة في التفكير وتعريف أنفسهم بما يكرهون، حتى داخل البلد العربي الواحد.

مثل هذا الأمر لم يحدث بين البريطانيين والروس مع أن هناك معركة سياسية تدار في الأروقة، فهل ثمة معركة سياسية بين مصر والسعودية مثلا، أو بين السعودية وتونس؟

لا يوجد إعلام بريطاني تبنى دعوة حكومة ماي من مونديال روسيا، وسارت الأمور سلسلة كما كان مهيئا لها مثل أي مونديال سابق، هيئة الإذاعة البريطانية لديها فريق إعلامي ضخم من المعلقين والمحاورين في روسيا لا يترك أي زاوية من المونديال من دون أن ترصدها العدسة، قناة “أي. تي. في” الخاصة تقوم بذلك أيضا عبر الاتفاق على توزيع نقل المباريات مع “بي. بي. سي”، الصحف البريطانية رفعت الأقلام والعدسات معا في تغطية صحافية غير منحازة، وآخر ما كان يشار إليه كلام بوريس جونسون عن بوتين.

المونديال قضية إعلامية، من دون أن يعني ذلك إغفال سياسية كرة القدم، لكن مجرد إفساد متعة الجمهور بهذا الخلاف يعني أننا فقدنا الحياد داخل الملعب وخارجه.

فـ”مشيئة القدر” فرضت على قادة دول غربية أقرت عقوبات على روسيا، عدم التوجه لحضور جانب من المونديال، لكن يصعب على الكاتب سيرجي ستروكان في صحيفة “كوميرسانت” الروسية، تخيّل عدم حضور المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل للمونديال، لو تأهل المنتخب الألماني للمباراة النهائية. “من سوء حظ ميركل خرج المنتخب الألماني من الأدوار الأولى”.

على الجانب الآخر ألقى الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون خطبة تشجيعية على فريقه الوطني قبل أن يسافر إلى روسيا، وقال للصحافيين وهو يغمزهم بعينه “من المفترض الفوز”.

قال الرئيس الفرنسي للفريق  قبل الذكرى العشرين لأول فوز فرنسي وحيد في كأس العالم “ستكون لديكم لحظات من الشك، حافظوا على وحدتكم، اعملوا بجد، كونوا على ثقة بأنفسكم واستعيدوا الثقة”.

يصر السياسيون على لعب كرة القدم السياسية، وفق آن سيلفان مديرة مكتب باريس تشاساني بقولها “الرئيس الفرنسي لم يكن يتفاخر ضمنيا بشأن انتخابه. فقد كان أيضا يرسل رسالة مفادها أن الانتصار سيبدو جيداً لفرنسا، وبالتالي بالنسبة له”.

وتقول في تقرير لها بصحيفة فايننشيال تايمز “ماكرون ليس أول سياسي يسعى للحصول على مكاسب سياسية من الانتصار في كرة القدم التي تُحمس الناس من جميع فئات المجتمع، لكن الفوز بكأس العالم عام 1998 والجنون الذي أعقب ذلك، أظهرا أن هذا يمكن أن يكون استراتيجية محفوفة بالمخاطر”.

لا يمكن أن تخفي تيريزا ماي المطالبة بحدة بمقاطعة المونديال الروسي، سعادتها الغامرة بانطلاقة الفريق الإنكليزي الشاب، ومهما أوهمنا بوريس جونسون بأنه مشغول في قضية التصويت على توسيع مطار هيثرو، فإنه لا يمكن أن يخفي علينا ولعه بما يحدث في موسكو.

يكفي هنا أن نذكر أن الأمير ويليام قد اقتطع من وقته الرسمي أثناء زيارته الرسمية إلى الأردن وشاهد إعادة لمباراة المنتخب الإنكليزي مع بنما بصحبة ولي العهد الأردني الأمير الحسين بن عبدالله الثاني.

كل هذه الأخبار السياسية بقيت في الهامش ولم تكن الشغل الشاغل لوسائل الإعلام البريطانية، بقدر ما كانت تدفع باتجاه دعم المنتخب الإنكليزي، وترك دعوات رئيسة الوزراء في هامش أخبار المونديال.

ينصحنا الكاتب سيمون كوبر من أجل مشاهدة ممتعة لمباريات المونديال: تذكّر من النادر أن يكون للحظ دور كبير في أي رياضة أخرى مثلما هو في كرة القدم. ويقول عش البطولة تماما، لكن لا تأخذها على محمل الجد.

ويعيد تذكيرنا بما قاله فيل بال في كتابه “قصة كرة القدم الإسبانية”: “السخافة الأساسية في كرة القدم هي أنها أصبحت مهمة”.

يفهم معظم الجمهور، حتى وهو يصرخ أثناء مشاهدة المباراة، أن الأمر ليس جديا لأنه في صباح اليوم التالي لهزيمة منتخب بلاده يذهب الناس جميعا إلى العمل.

ويقول كوبر “لا تتصور أن تؤثر مباريات كأس العالم في الحياة الحقيقية، خلافا للمبالغات، لا يمكن للبطولة الناجحة أن تبقي رئيسا في السلطة، أو أن تصنع انسجاما عرقيا في بلد، يختفي كأس العالم كالحلم، غالبا ما يعكس الواقع الاجتماعي، لكنه لا يشكله”.

لكن مثل هذا الأمر، لسوء الحظ، لم يحدث في وسائل إعلام دول المنتخبات العربية المشاركة في المونديال وفي تصريحات المسؤولين العرب. ثمة تهريج سياسي بصبغة رياضية حث على الخلاف والكراهية.

مع ذلك يستمر العالم في رؤية فريق كرة القدم على أنه مرآة للبلاد. السياسيون والمعلقون يمحصون اللاعبين وعروضهم، محاولين فك شفرة آلية المجتمع الداخلية.