النقوش الهيروغليفية تتجلى في المنشآت الإسلامية بقاهرة المعز

كتاب رضوى زكي يشكل دراسة عربية وافية عن العناصِر المعمارية الفِرْعَوْنِية المسْتَخْدَمَة في آثار القاهِرَة الإسلامية من منظور العمارة الإسلامية.
التراث شغل أذهان المسلمين ودفعهم إلى التفكير فيه، بجانب التفكّر في مصير الأمم السابقة وآثارهم
المتأمل في الحركة العلمية والثقافية في مصر الإسلامية يجد في هاية العصر الأيوبي وخلال العصر المملوكي، بعض أئمة الإسلام البارزين
انظر يا بنيّ لما بنته الفراعنة

تشكل دراسة الباحثة المتخصصة في دراسة الآثار الإسلامية وتاريخ العمارة المصرية د. رضوى زكي، "العناصِرُ المعْماريةَّ الفِرْعَوْنِيةَّ المسْتَخْدَمَة في آثار القاهِرَة الإسلاميةَّ" الصادرة عن مؤسسة بتانة الثقافية للنشر، المحاولة الأولى لإصدار دراسة عربية وافية عن العناصِرُ المعْماريةَّ الفِرْعَوْنِيةَّ المسْتَخْدَمَة في آثار القاهِرَة الإسلاميةَّ من منظور "العمارة الإسلامية". تلك العناصر المعمارية التي كانت يومًا جزءًا من الآثار المصرية القديمة، ثم استمرت تؤدي دورًا وظيفيًّا فاعلاً في العديد من العمائر الإسلامية، وكأنها شاهد صامت على تعدد وتعاقب الحضارات والأديان على أرض مصر.
ترى د. رضوى زكي أنه بدخول المسلمين لأرض مصر عام 21ه/642 وانفتاحهم على حضارتها القديمة، ومع الرغبة التي ثارت في نفوسهم للتعرف على علوم الأقدمين ومعارفهم بوجه عام، كان أمرًا مألوفًا أن يدفع ذلك نحو اتجاهين متوازيين ومتلازمين، بل في الحقيقة اتجاه واحد ذو وجهين؛ وهو التفاعل مع التراث المصري القديم الذي وجده العرب والمسلمون نصب أعينهم في مصر، سواءٌ أكان هذا التراث معماريًّا، مثل آثار مصر القديمة كالأهرامات والمعابد والتُحّف والعناصر المعمارية، أم التراث الكتابيّ المدون والمنقوش على تلك الآثار، ويتمثل في الكتابة المصرية القديمة. 
وقد شغل هذا التراث أذهان المسلمين ودفعهم إلى التفكير فيه، بجانب التفكّر في مصير الأمم السابقة وآثارهم، والاعتبار من فناء من شيّد عظيم البنيان، كما حث على ذلك القرآن الكريم "أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ".
وتوضح "لما كانت الحضارة المصرية القديمة حضارة عظيمة، ذات تراث معماري هائل، فقلما وُجد أثر - ثابت أو منقول - دون أن يحمل نقشًا كتابيًّا، وبالأخص بالخط الهيروغليفي؛ فكان ذلك أبرز الأسباب التي أثارت دهشة العرب المسلمين على مدار قرون طويلة، وأوجدت شغفًا شديدًا بالآثار المصرية القديمة، ودفعت بعض العقول إلى إيجاد تفسيرات سحرية وأسطورية؛ نتيجة عدم القدرة على فهم تلك الكتابات ذات الأشكال التصويرية، ومن ثم كان أحد الأسباب الأساسية لإعادة استخدام بعض الآثار المصرية المنقولة في المنشآت الإسلامية، مع الاحتفاظ بنقوشها الكتابية الهيروغليفية وعدم المساس بها، وهو ما يتضح على صفحات هذا الكتاب".

العمارة الإسلامية والفرعونية
شاهد صامت على تعدد وتعاقب الحضارات والأديان على أرض مصر

وتؤكد رضوى زكي أن مصر القديمة وحضارتها وتراثها الأثري احتلت مكانة بارزة في نفوس العرب في العصور الوسطى، وتشهد بذلك الصفحات والمخطوطات التي أفردها الرحّالة والمؤرخون والجغرافيون في مؤلفاتهم للحديث عن مصر، ومحاسنها وتراثها وعجائبها الذي احتلت فيه مصر القديمة وحضارتها النصيب الوافر. كما نستدل باستخدام المسلمين للعناصر المعمارية الفرعونية في منشآتهم الإسلامية على اختلاف أنواعها ووظائفها إلى وجود صلة ورابط بين تراث مصر القديمة وحاضر مصر الإسلامية.
وتشير إلى أن المتأمل في الحركة العلمية والثقافية في مصر الإسلامية يجد في خضم الإنتاج الفكري الغزير في العصور الوسطى، وبالأخص نهاية العصر الأيوبي وخلال العصر المملوكي، بعض أئمة الإسلام البارزين أمثال الإمام شيخ الإسلام الحافظ جلال الدين السيوطي (ت. 911ه/ 1505) صنّف مؤلفًا مفردًا يختص بذكر أهرام مصر، وهو مخطوط «تُحفة الكرام بخبر الأهرام»، وقد سبقه في ذلك المؤرخ والمحدّث المصري الشريف أبو جعفر الإدريسي (ت. 649ه/1251) في كتابه الفريد من نوعه، الذي اختصه لدراسة كل ما يتعلق بالأهرام وأسماه "أنوار علويّ الأجرام في الكشف عن أسرار الأهرام". وهو ما يعكس وجود وعي مجتمعيّ، لا يشمل حماية تلك الآثار القديمة، ومحاولة الوقوف بوجه من يدعو إلى تخريبها أو العبث بها وحسب؛ بل دراسة تلك الآثار دراسة متعمقة، متأنية وواعية، وعيًا نابعًا من تقبل علماء المسلمين لتراث مصر القديمة؛ أي تقبل الآخر المختلف في الدين والعقيدة وهو ما لا نجده اليوم في راهننا المعاصر.
وتلفت زكي إلى أن الدراسات العديدة التي عالجت العلاقة بين حضارة مصر القديمة وتراثها الأثري في فترة العصور الوسطى لم تستطع التحقق من مدى الاهتمام الصادق بشؤون مصر القديمة عند المسلمين في العصر الوسيط، بين رفض فئة من المتعصبين للتراث الأثري المصري القديم ونبذه، وفئة أخرى تنظر للآثار المصرية باعتبارها غنيمة يسيرة وبوابة للثراء والتكّسب السريع، وفئة ثالثة سادت أفكارها الشعبية في الاعتقاد بالقوى السحرية المرتبطة بالآثار القديمة ونقوشها المطلسمة. 
والأجدر إشارةً تسليط الضوء على بعض عقلاء علماء المسلمين ممن أدركوا أهمية وجود الآثار المصرية، وسعوا لتسجيل مواقفهم الرافضة لبعض الأفعال المشينة التي شاهدوها بأعينهم مثل عبداللطيف البغدادي، وأبو جعفر الإدريسي الذي نستشهد ببعض سطور مؤلفه أنوار علويّ الأجرام الذي دونه بنهاية العصر الأيوبي حين ذكر بأسى ما رآه من تخريب بربا الأقصر قائلا: "انظر يا بنيّ لما بنته الفراعنة، كيف تهده الصفاعنة. وما آسى ولا آسف إلا على فساد ما ينقله المستبصرون عنها ويعتبر به المعتبرون منها، ولو كان لي من الأمر شيء، ما مكنت هؤلاء الجهلة من خرابها. وأيّ حكمة تذهب من الأرض بذهابها! ولقد وطئت خيل الصحابة رضى الله عنهم – لما توجهوا إلى غزو النوبة بعد فتح مصر - هذه الأرض وجالت في هذه البلاد، ورأت أعين القوم هذه الأبنية، وما امتدّت أيديهم إليها بالفساد، بل تركوها عبرةّ لمعتبرٍ مستبصر، وتذكرة لخبيرٍ مستخبر".
وتقول: "لا يسعنا بيان رد فعل المجتمع المصري الإسلامي ومساندته لموقف الإدريسي المشهود الذي ينكر الاعتداء على الآثار القديمة، ويُعتقد أنه لم يتحقق سوى في العصر الحديث إبان القرنين التاسع عشر والعشرين، بعد أن نمى الوعي بأهمية التراث الأثري بوجه عام، مثل رفاعة الطهطاوي، المُصلح المصري الذي وضع مختصرًا للتاريخ الفرعوني يضم آيات من القرآن الكريم وقصص الأنبياء، جنبًا إلى ترجمات علماء المصريات الفرنسية إيذانًا ببدء البحث الجاد في علم الآثار عامةً، وعلم المصريات بصورة خاصة".
وترى زكي أنه من الأمور اللافتة للانتباه تواتر اسم الملك رمسيس الثاني وأسماء أرباب مدينتي منف وعين شمس القديمتان على عدد كبير من الكُتل الحجرية المصرية المكتشفة بعمائر القاهرة، ذلك أنه من أكثر ملوك مصر القديمة تشييدًا وانتحالاً للآثار المصرية، كما كانت غالب الآثار المصرية مجلوبة من منطقتي منف أو هليوبوليس نظرًا لقربهما جغرافيًا من مدينة القاهرة.  
وتكشف أن الكُتل الحجرية الفرعونية المستخدمة في المنشآت الإسلامية بمدينة القاهرة تكاد ألا تخلو من نقوش هيروغليفية ومناظر من مصر القديمة، مما يدعو للقول إنها نُقلت من منشآت مصرية ذات طبيعة وظيفية "دينية أو ملكية". وقد اتسمت بالصلابة والمتانة في مادة بنائها كالجرانيت والشست والكوارتزيت، وحملت نصوصًا بالخط الهيروغليفي، باعتباره الخط الرسمي للمنشآت الدينية والملكية المصرية القديمة، أما الآثار المصرية المشيدة من الحجر الجيري أو الرملي فكانت أقل استخدامًا، لأنها لا تؤدى الغرض المطلوب منها، وهو تدعيم البناء وقواعده سواء بالأعتاب العليا والسفلي للمداخل أو الأساسات والأرضيات وخلافه، وهو مناط إعادة استخدام العديد من الكُتل الحجرية والآثار المصرية المنقولة. ولليوم، لم يصادف أن تم العثور على أي آثار منقوشة بالخط الهيراطيقي أو الديموطيقي، نظرًا لأن هذا الخط عادة ما يتم تدوينه على آثار غير ملكية، أو على مواد سهلة الكسر كالحجر الجيري أو الشُقافات، لذا، فلم تدخل في بناء العمائر الإسلامية.
يقع الكتاب في 234 صفحة من القطع المتوسط، ويشتمل على مقدمة تتناول العناصر المعمارية الفرعونية المستخدمة في آثار القاهرة الإسلامية، وثلاثة فصول. ويأخذ الكتاب القارئ في رحلة عبر مسارات محددة للزيارة، بالاستعانة بمجموعة من الخرائط لتتبع الآثار الإسلامية التي دخل في بنائها عناصر معمارية فرعونية، مع تحديد مواقع تلك الآثار عليها؛ ليتمكن القارئ بواسطة هذا الكتاب من تفقّد تلك الآثار الإسلامية بسهولة، مستعينًا بالخرائط المرفقة، وبمصاحبة الصور الفوتوغرافية القديمة والحديثة، لاقتفاء أثر العناصر المعمارية الفرعونية الباقية بالمنشآت الإسلامية بمدينة القاهرة، هذه المدينة العريقة والعتيقة بتاريخها وتراثها الأثري المصري القديم والإسلامي؛ حيث تقع مدينة القاهرة بتراثها المعماري الإسلامي البارز بين الأنقاض الأثرية لمدينتي منف وعين شمس القديمتين. 

وتلك الصورة البليغة للتناغم بين تراث مصر المعماري القديم والإسلامي كفيلة برسم مشهد ساحر في ذهن زائري مدينة الألف مئذنة، فتطل علينا آثار ملوك مصر القديمة، وتزدان بآثار العصور الإسلامية المختلفة، وهو ما أثار الفضول وحرك الرغبة في نفوس كثير من الرحّالة العرب والأوروبيين لتسجيل تلك الصورة البانورامية للمدينة.
وتتميز تلك الدراسة بالاعتماد بصورة أساسية على اللوحات، سواء أكانت صورًا فوتوغرافية للآثار محل الدراسة، أم لوحات من عصور مضت تضمنت إشارة إلى ما وصفه الرحّالة أو المستشرقين، مرسومة بريشة بعض الرحّالة أو المستشرقين أو علماء الحملة الفرنسية، تعكس ما وقعت عليه أعينهم خلال فترات تاريخية مختلفة من تاريخ مصر العربية، ليكون من اليسير على القارئ الربط بين ما جاء مصورًا وما جاء مدونًا في هذا الكتاب، والتي يتضح من خلالها وجود العناصر المعمارية الفرعونية في عمائر القاهرة الإسلامية، ومواضعها وأشكالها؛ فالصورة أبلغ وسيلة تنطوي من خلالها رسالة تصويرية مفادها أن تلك العناصر المعمارية الفرعونية كانت جزءًا من الآثار الإسلامية بمدينة القاهرة، تتمتع بخصوصيتها وأهميتها طالما بقيت تلك الآثار قائمة. 
وبذلك يقدم هذا الكتاب للقارئ والباحث مظهرًا مهمًّا للاتصال بين مصر القديمة ومصر الإسلامية، لم يقتصر على ما جاء من روايات وأساطير في المصادر التاريخية والجغرافية والأدبية؛ بل بات ممثلاً في ممارسة ما زالت آثارها باقية إلى اليوم، شاهدةً على محاولات المسلمين للتعرف على آثار الحضارة المصرية القديمة وعمارتها.   
يشار إلى أن المؤلفة، دكتورة رضوى زكي، أكاديمية متخصصة في الحضارة والآثار الإسلامية وتاريخ العمارة المصرية، تشغل وظيفة باحث أكاديمي أول بقطاع البحث الأكاديمي بمكتبة الإسكندرية، وحاصلة على درجة دكتوراه الفلسفة في الآثار الإسلامية من جامعة الإسكندرية. تلقت تدريبًا في مجال التراث الثقافي من جامعة سابنينزا Sapienza  والمركز البحوث الوطني CNR بروما – إيطاليا. صدر لها عن الهيئة العامة لقصور الثقافة المصرية كتاب "إحياء علوم الإسكندرية.. من اليونانية إلى العربية" تقديم د. كمال مغيث عام 2017، كما أسهمت في دراسة وتحرير عدد من الدراسات الأكاديمية أبرزها "موسوعة المزارات الإسلامية والآثار العربية في القاهرة المعزية"، ثمانية أجزاء (الإسكندرية: مكتبة الإسكندرية، 2018). ونُشر لها عدد من الأبحاث المحُكّمة، والعديد من المقالات في مجال التراث المعماري والثقافي العربي والإسلامي في مجلات مصرية وعربية ومواقع إلكترونية.