الوطن في الرواية العربية: بين خطاب الاحتجاج وخطاب اليأس

رابطة الكتّاب الأحرار ببنزرت تنظم الملتقى الدولي للرواية العربية يطرح اشكاليات مرتبطة تغير مفهوم الوطن في ظل تحوّلات سياسية واجتماعية عديدة شهدتها البلدان العربية وخاصة بعد موجة الانكسارات والهزائم والخيبات.

لئن كان مفهوم الوطن وتمثّلاته حاضرة في الرواية العربية منذ القرن الماضي، فإن هذا المفهوم قد شهد منعرجا جديدا في ظل تحوّلات سياسية واجتماعية عديدة شهدتها البلدان العربية وخاصة بعد موجة الانكسارات والهزائم والخيبات التي لحقت بالعالم العربي في السنوات الأخيرة، ما أفضى إلى تعدّد  في تمثيلات الوطن في الرواية وتنوع في كيفيات تشكيله سرديا.

وقد سعى الملتقى الدولي للرواية العربية الذي نظمته رابطة الكتّاب الأحرار بمدينة بنزرت  التونسية تحت عنوان "الوطن في الرواية العربية" خلال أيام ثلاثة هي 10/11/ 12 نوفمبر/تشرين الثاني 2023  إلى طرح هذه الإشكاليات وتدارسها، لتتولّد الأسئلة ومنها:  ما هي تمثيلات الوطن وصوره في الرواية العربية اليوم؟ وهل خضع  مفهوم الوطن للتعدّد في الرؤى والمواقف فشهد تحوّلات و منعرجات هامة؟ هل استطاعت الرواية العربية أن تكون وفيّة لذاكرة الوطن وأن تنحت ملامحه وصوره عبر التشكيل السردي؟ كيف تفاعلت الذات الكاتبة/ذات السارد مع الوطن في الرواية و رسمت ترنّحها  بين العشق والحنين و الحلم وبين قلق الانتماء والغربة واليأس والوجع والخيبة؟ ما مدى قدرة الرواية اليوم على التأثير في موقف المتلقي  وهل تركت له مساحة للحلم؟

سافرت مداخلات الباحثين في هذا الملتقى، من أكاديميين ونقاد وروائيين، إلى أوطان عديدة شهدنا معها صورة لبنان عبر رواية هدى عيد "حبيبتي مريم" في ورقة الروائي والأكاديمي الجزائري عزالدين جلاوجي، وارتحلنا إلى العراق بعد الغزو مع الباحثة والروائية سعدية بن سالم وروايات محمد الحياوي "بيت السودان" و"خان الشبندر"، وسافرنا مع الروائية  عائشة الأصفر إلى ليبيا و روايات صالح السنوسي ونجوى بن شتوان وعائشة ابراهيم، لنشهد أحوال الوطن مستعمرا يخوض الحروب التحريرية ويعيش المحنة، والوطن مستقلا لكن المحن تتجدد مع القمع وإقصاء المختلف ومع التطرف الديني.

كما حضرت فلسطين وطنا مقاوما  في عديد الورقات والمداخلات خاصة مع ابراهيم أزوغ (المغرب) وأحمد الناوي بدري (تونس) باعتبار الرواية الفلسطينية رواية مقاومة ورواية هوية حيث يغدو الوطن رديف الأرض ورديف الحرية، بالإحالة إلى روايات يحيى يخلف وابراهيم نصر الله ونادية حرحش... كما حضرت فلسطين ومصر والجزائر في مداخلة د.السيد نجم عبر روايات هاني الراهب والشرقاوي وغيرهما..أما تونس فقد بدت صورة الوطن في ستّ روايات تونسية اعتمدها د.محمد القاضي نماذج تجعل الوطن أقرب إلى الكابوس. وتحوّلت استعاريا في روايات أخرى إلى "مصبّ" (رواية شادية القاسمي) وكانت مرآة لجراح الذات المهمّشة ولواقع مربك (الروائية نبيهة العيسي).

أما  الروائية مسعودة بن بوبكر فقد راوحت بين ما تبوح به رواياتها و شخصياتها من أوجاع الوطن، وبين بوحها خارج فضاء النص بعشق جارف للوطن رغم المآسي والجراح.

   استطاعت الروايات العربية عبر لعبة التخييل والسرد المراوغ أن ترسم محنة الذات الساردة  وأوجاع الغربة والتهميش وقلق الانتماء في الوطن الأمّ، فغدا الوطن أحيانا رديف السجن والجحيم وطغت العوالم الديستوبية على الرواية، وتقلص حضور رواية اليوطوبيا التي تجعل الوطن حلما ووطنا مشتهى، بل وطنا أسطوريا . لذا كان مدار الأسئلة المهيمنة والحارقة في النقاش البحث في أسباب هذا الميل الجارف خاصة في الرواية التونسية إلى جلد الذات؟ هل يسهم هذا التبئير على الأوجاع والأعطاب والمحن في نحت قارئ (مواطن) مؤمن بإمكانية المواجهة والتحدّي، قادر على المقاومة ؟ ألا ترسّخ الرواية بذلك الشعور المتفاقم اليوم  بالعجز واليأس والنزوع إلى الهروب والهجرة نحو المنافي؟

   أصوات أخرى ارتفعت في النقاشات تدعو إلى ألا يكون عشق الوطن في الرواية مجرد خطاب احتجاج و قرين التبئير على الجراح ورسم المأساة، بل أن يكون صوتا صادحا بالمحبة والحلم، أن تكون الرواية بذلك صرخة مقاومة وتحدّ حتى تبني الحلم وتنسج أسطورة الوطن . وهو ما دفع د.السيد نجم (مصر) إلى التعبير عن الدهشة والحيرة أمام هذا النزوع المتنامي إلى جلد الذات في عديد الروايات اليوم وإلى تغييب صوت المقاومة والتحدّي، فروايات الحرب والمقاومة قد تكون نموذجا مناسبا لبناء مواقف أكثر إيجابية لدى القارئ.

   لم تغفل المداخلات والورقات العلمية  التي قدّمها ضيوف الملتقى تدارس طرائق التشكيل الفني والسردي للوطن، فقد كانت لعبة التخييل حاضرة بقوة في المداخلات خاصة لدى الجامعيين (د.رضا الأبيض، د.أحمد الناوي بدري، د.محمد بالضيافي، د، رياض خليف ..) غير أن النقاشات وهي تفسح المجال للجمهور العريض المتنوّع المشارب والمستويات (أساتذة، طلبة، تلاميذ، روائيين ...) لم تتوقف عند  مراوغات السرد بقدر ما كانت منشدّة إلى الأبعاد الدلالية والقضايا التي تطرحها الروايات العربية في انشغالها بالوطن. وقد عكس الحوار عموما شعورا قويّا بأهمية المحور الذي اقترحه الملتقى، خاصة في ظل واقع قاتم تعيشه البلدان العربية اليوم وفي ظل انكسارات وهزائم، وفي ظل ما تعيشه فلسطين اليوم من تدمير وتهجير قسري وإبادة جماعية وتقويض وهدم لكل القيم والحقوق الإنسانية.

   لقد أكدت المداخلات والنقاشات في هذا الملتقى الدولي للرواية العربية في دورته الخامسة الذي نظمته رابطة الكتّاب الأحرار ببنزرت اختلافا المواقف والرؤى عند تحديد مفهوم الوطن. هل هو مجرّد مكان نسكنه فيحمينا أم هو هويّة وانتماء وأرض تسكننا لا نسكنها؟ هل هو مجرد فضاء يؤوينا مهما كانت حدوده الجغرافية وتنوّعت فيه الأعراق والأديان والشعوب، أم هو تلك الأرض واضحة الحدود التي نشأنا فيها و عشنا؟ هل تغدو الرواية كما يرى البعض  "هي الوطن يلوذ به الروائي بديلا من وطنه الواقعي"؟

وكما تفاعلت الرواية العربية اليوم مع جلّ الفنون والأجناس الأدبية والخطابات، تفاعل هذا الملتقى الدولي للرواية مع الفنون كالرسم والغناء والمسرح والسينما، عبر تنظيم ورشات متنوعة لها انطلقت جميعا من الرواية وكانت الإبداعات التي أمّنها عدد من الشباب من وحي الروايات التي طالعوها، وكان العرض المسرحي الذي شارك فيه شباب تلمذي بعنوان "طوفان" تعبيرا صارخا وقويا عن تفاعلهم مع  محور الملتقى، إذ كانت قضية فلسطين هاجسا رئيسيا في هذا العرض. هي أنشطة موازية أضفت الكثير من الحيوية والتنوع على هذا الملتقى الدولي وجعلته مختلفا تصوّرا وإنجازا عما يقدّم من ملتقيات أكاديمية وإن كانت مثمرة على مستوى البحث والمنهج إلا أنها تتجه إلى جمهور محدود و خاص ولا تجد صداها الواسع لدى الجمهور العريض.