اليهود و"الحارس الأخير للقاهرة القديمة"

الروائي الأميركي اليهودي مايكل ديفيد لوكاس يفتتح روايته بعبارة للفيلسوف وعالم الفلك والطبيب اليهودي موسى بن ميمون.
أحداث القاهرة تمتزج في العصر الحاضر مع تاريخها العتيق، ويتخلل الأحداث تفاصيل اكتشاف وثائق الجنيزة في معبد بن عزرا أحد المعابد اليهودية المصرية
في رواية مايكل ديفيد لوكاس لمسة من الواقعية السحرية إلى جانب الجو التاريخي السائد بها

يفتتح الروائي الأميركي اليهودي مايكل ديفيد لوكاس روايته "الحارس الأخير للقاهرة القديمة" بعبارة للفيلسوف وعالم الفلك والطبيب اليهودي موسى بن ميمون، التي يقول فيها "في العصور الخالية، عندما تهددتنا العواصف، ارتحلنا من مكان لآخر، لكن برحمة تمكنا من العثور على مستقر في هذه المدينة". وهي عبارة تلقي بظلالها على رؤى وأفكار الرواية التي ترجمتها إيناس التركي وصدرت عن دار آفاق.
لوكاس يعمل في مركز دراسات الشرق الأوسط بجامعة كاليفورنيا في بركلي، أتى إلى القاهرة للدراسة في الجامعة الأميركية عام 2000 عندما كان طالبا في السنة الأولى في جامعة براون. وفازت روايته "الحارس الأخير للقاهرة القاديمة" والتي تعد الثانية في مسيرته بالجائزة القومية للكتاب اليهودي لعام 2018، وبجائزة سامي رور للأدب اليهودي عام 2019 بالإضافة إلى جائزة صوفي برودي الممنوحة من جمعية المكتبات الأميركية لعام 2019.
في الرواية أصوات متعددة، حيث تقدم العلاقة الممتدة لعدة قرون بين أسرة مسلمة وبين يهود القاهرة من خلال ثلاث وجهات نظر مختلفة تتبدل بين فصول الرواية. في الرواية لمسة من الواقعية السحرية إلى جانب الجو التاريخي السائد بها، فتمتزج أحداث القاهرة في العصر الحاضر مع تاريخها العتيق، ويتخلل الأحداث تفاصيل اكتشاف وثائق الجنيزة في معبد بن عزرا أحد المعابد اليهودية المصرية، والذي يقع في منطقة الفسطاط. ويعد واحدا من أكبرها وأهمها، وخصوصا مع تولي الحكومة المصرية له بالرعاية وترميمه، وتحويله لأثر ومزار سياحي، نظرا لاحتواء مكتبته على نفائس الكتب والدوريات اليهودية التي تؤرخ لوجود طائفة اليهود في مصر، وكان الاكتشاف على يد البروفيسور اليهودي المحافظ سولومون شيختر والشقيقتين التوأمين مارجريت جيبسون وأجنيس لويس.
مقتطف من الرواية
منذ زمن طويل مضى، قبل مبارك والثورة، وقبل السادات وبيجين، وقبل ناصر والضباط الأحرار، وقبل أزمة السويس وقبل قناة السويس، وقبل هرتزل، وقبل دريفوس، وقبل سولومون شيختر ومكتبة جامعة كامبريدج، وقبل إسماعيل باشا ومحمد علي باشا، وقبل الإنجليز والفرنسيين والعثمانيين والمماليك والأيوبيين، وقبل الطاعون الكبير وصلاح الدين، وقبل الحكيم العظيم ابن ميمون ـ تقدست ذكراه ـ تبدأ حكايتنا قبل كل ذلك، في عهد المستنصر، عندما كانت القاهرة لا تزال مدينتين تحيا بينهما طائفة اليهود.
كان الوقت قرب نهاية الصيف، في العام 4800 منذ بدء الخليقة، بعد أربعة قرون من هجرة محمد (صلى الله عليه وسلم) للمدينة، وبعد أكثر من ألف عام من ميلاد عيسى (عليه السلام)، بلغت مياه النيل أعلى منسوب لها منذ بضعة أيام، والتمع الوادي المنبسط بأكمله وهو يتألق من الرطوبة، تحت الظلال الداكنة التي ألقتها اللقالق في طيرانها، وامتزج رنين مطرقة حداد يعمل بهمة مع صوت الأذان ورائحة الخبز في أحد الأفران. في ذلك النهار تحديدا كانت هناك رائحة أخرى أيضا، رائحة نفاذة وغير مألوفة في بادئ الأمر. لم يستطع أحدهم تحديد كنهها حتى قاموا من أسرتهم وأعينهم لا تزال غائمة، ودفء الفراش مازال يحيط بأجسادهم، وخرجوا ليشاهدوا خيطا رفيعا من الدخان يتصاعد من معبد بن عزرا اليهودي.

مال على جانب المركب وملأ كفيه بالماء. "هذه دماؤنا". استمر في حديثه وهو يجعل الماء يتسرب من يديه على ركبتي، "عاشت أسرتنا على ضفاف النيل قرابة الألف عام، فهذا النهر يجري في عروقنا

بعد فترة وجيزة تجمع حشد من الناس في ساحة المعبد: النساء والأطفال والصباغون وصناع الزجاج، والصيادلة والصرافون والصيادون، بالنسبة للغالبية منهم كانت هذه هي أول مرة يشاهدون فيها المعبد المبني حديثا. لم يكن بناؤه قد انتهى، ولم يتم تكريسه كمعبد بعد، وعلى الرغم من ذلك كان هذا المبنى الجديد بكل جماله قد اسودَّ لونه من آثار الحريق. كان أمرا مروعا، لكن القدر تلطف، فلم يقع ما هو أسوأ. فيما عدا رائحة الدخان في قاعة، فقد اقتصرت الخسائر على آثار السناج أسفل السقالات حيث بدأ الحريق.
من عساه يفعل شيئا كهذا؟ تراءى للبعض من المتفائلين وسط الحشد أن هناك دلائل على أن الحادث غير مقصود، ربما كان بعض الفحم المشتعل الذي ضلت شراراته الطريق أو ربة منزل مهملة. بينما أصر البعض الآخر أن الحادث من فعل مخربين متصبين. وكان هناك من عدوا الأمر برمته نذير شؤم يذكرهم بما يدخره لهم المستقبل، على عهد الحاكم بأمر الله بكل فظاعته؟ من عساه لا تعتريه رعدة عندما يتذكر ذلك النبي الكاذب وعلاقته الغريبة بأخته، والذي دمر حوالي دستة من المعابد اليهودية والكنائس، بما في ذلك معبد بن عزرا الأصلي؟ من بإمكانه أن ينسى ذلك الطاغية الذي بلغ طغيانه لدرجة أنه حرم تناول الملوخية بأوراقها الخضراء المعروفة أيضا باسم خبيزة اليهود؟ مضى على وفاة الحاكم الآن عشرون عاما، وأثبت الخليفة الحالي المستنصر أنه صديق لليهود، لكن على الرغم من ذلك لم يكن بإمكان أحد أن يجزم تماما بالأمر.  
مقتطف آخر من الرواية
صعد عمي حسن للمركب ثانية بعد بضع دقائق قضاها في الماء. أذكر أنه ابتسم وبدا وكأنه يستعد ليشعل سيجارة. فجأة، مال للأمام ولف ذراعيه حول صدري وألقاني في النيل. انقطع نفسي من المفاجأة، وعندما صعدت لسطح الماء وأنا أبصق وأسعل بينما أحاول أن أطفو بحذاء وملابس مبلّلة كان الجميع يضحكون. غنى أبناء عمومتي أغنية هزلية لأجلي، وضحكت معهم رغم علمي أنني كنت محل سخرية.
عندما عدت لسطح المركب، خلعت ملابسي المبللة وفرشتها حتى تجف. امتلأت عيني بدموع الغضب، لكنني حبستها بدافع من خبرتي التي علمتني أن البكاء يزيد الأمور تعقيدًا. شعرت بالغضب تجاه عمي حسن، لكنني كنت ألوم والدي أكثر منه لأنه سمح بحدوث ذلك، ولم يقم بحمايتي، ولأنه كان يضحك بصوت خفيض وهو يلف كتفي بالفوطة. النقطة التي كانت في صالحه هي أنه لم يقل شيئًا عندما رآني أشعر بالغضب هكذا. لم يحاول أن يفسر موقفه أو يقدم اعتذارًا. فقط اكتفى بالجلوس معي في مؤخرة المركب بينما نتأمل المياه البنية القاتمة وهي تمر على مبعدة بضعة أقدام بالأسفل.
أخيرًا نطق قائلًا: "هناك مثل يقول بأنك لو شربت من ماء النيل فسوف تعود إليه دومًا، أما لو سبحت فيه فإنك لن تغادره أبدًا".
ثم مال على جانب المركب وملأ كفيه بالماء. "هذه دماؤنا". استمر في حديثه وهو يجعل الماء يتسرب من يديه على ركبتي، "عاشت أسرتنا على ضفاف النيل قرابة الألف عام، فهذا النهر يجري في عروقنا".