يولغاكوف يهاجم الشوفينية وسلطة الغوغاء بـ'قلب كلب'

الرواية بقيت محظورة لعقود قبل نشرها في روسيا بسبب تسليطها الضوء على نقد اجتماعي وسياسي عميق من خلال تجربة تحويل كلب إلى إنسان، كاشفةً عن تناقضات المجتمع السوفييتي وتأثير الدولة على الثقافة والعلم.

في مطلع سنة 1925 أيضًا كان قد أنجز الكاتب الروائي والكاتب والمخرج المسرحي الروسي، والطبيب المشهور ميخائيل بولغاكوف، قصته الطويلة "قَلْبُ كلب" التي حذره أصدقاؤه من نشرها، فبقيت أكثر من ستين سنة بعيدة عن متناول يد القارئ الروسي، حيث لم تُنشر في روسيا إلا سنة 1987، ومنذ ذلك التاريخ تكرر نشرها مرارًا يصعب حصرها، وذلك في مرحلة لا تقل تعقيدًا عن مرحلة كتابتها، ما جعل كثيرين من القراء لا يرون فيها أكثر من نبوءةٍ سياسية، إبداعية، سوداء، نفاذة لا تضاهى.

هذه القصة العبقرية في موضوعها ورؤيتها والتي ترجمها إلى العربية الأكاديمي والشاعر السوري نوفل نيوف، وصدرت أخيرا عن مؤسسة هنداوي، تدور حول إجراء عملية طبية لكلب لتُنقل إلى دماغه الغدة النخامية لإنسان قُتل حديثًا، ليصبح الكلب على إثرها إنسانًا ذا خِلقة دميمة، ولكن الطبيب "بريوبراجينسكي" ومساعِده "بورمنتال" اللذين أجريا العملية يَعجزان عن أنسنة هذا الكلب وتنشئته على الثقافة والمعرفة.

وفي أثناء ذلك يبدأ أحدُ المدافعين عن المصالح الثورية وممثِّل لمبدأ الاشتراكية يدعى "شفوندر"، ترويضَ الكلب البشري لصالحه، ويمنحه اسمًا جديدًا هو "بوليغرافيتش"؛ فتُستخرَج له بطاقة شخصية ويصبح واحدًا من العناصر العمالية، بل يشرع أيضًا في كتابة التقارير ضدَّ الطبيب ومساعِده.

نُسِجت هذه القصة بحبكةٍ فريدة بهدف إسقاطها على الطبقة الاجتماعية الجديدة التي ترعرعت في ظل الشوفينية السوفييتية وحجبت دور الثقافة والعلم، حتى صارت السلطة بيدِ الغوغاء والجهلاء. يقول نيوف في مقدمته للقصة معرّفا ببولغاكوف لافتا إلى أنه وُلد سنة 1891 في مدينة كييف، حيث تعلَّم وأصبح طبيبًا، أدركته ثورة أكتوبر/تشرين الثاني 1917 وهو في السادسة والعشرين من عمره. وبنشوب الحرب الأهلية في الإمبراطورية الروسية القيصرية المنهارة وجد نفسه سنة 1919 في صفوف البيض؛ أعداء الثورة، يعمل طبيبًا عسكريًّا في جبهة القوقاز، وفي مدينة غروزني الشيشانية التي أصبحت اليوم أشهر من أن تُعرَّف، هل كان تعاونه مع البيض اختيارًا أم نتيجة ظروف وملابسات، طوعًا أم تجنيدًا؟ تصعب الإجابة اليوم بغياب الوثائق والشهادات، سيما وأننا لا نميل إلى التخمين والتبسيط المُجحف في النظر إلى أمورٍ على هذا القدر من التعقيد.

وأضاف " كان لميخائيل بولغاكَف شقيقان ضابطان حاربا في صفوف البيض ثم هاجرا، مع فلول المهزومين، إلى أوروبا الغربية. أما بولغاكَف نفسه ـ الطبيب والكاتب ـ فقد كان أحد كثيرين أصيبوا بوباء التيفوئيد الفتَّاك سنة 1920 إصابة ظُن أنها قاتلة، لكنه شُفي وانضم إلى صف الثورة في أبريل/نيسان 1920، تاركًا مهنة الطب، ناذرًا نفسه للأدب، وفي خريف 1921 انتقل إلى موسكو وألقى بنفسه في ما يمكن أن نسميه ـ دونما خوف من تهويل ـ حربًا ضروسًا في الثقافة/الحياة الروسية بشتَّى جوانبها وتجلياتها… كان خصومه من الأدباء هم الأقوى من الناحية السياسية، يرون في الأدب منبرًا أيديولوجيًّا صريحًا وصداميًّا قبل كل شيء، وما كان لبولغاكف وأمثاله من الموهوبين الشرفاء إلا أن يتجاوزوا هذه الشرنقة الضيقة ليقفوا مع الحق والحياة/ مع الفن المبدع، دون أن يغضُّوا الطرف عن الانتهاكات والضلالات والأخطاء، دون أن يسمحوا للتيار بجرفهم حيث شاء. كان بولغاكف إنسانًا متماسك الشخصية، ثاقب النظر، شجاعًا بتعقُّل، جدَّد في الأدب ولاقى التقدير مثلما لاقى الإنكار والويلات. كان قلمه متهكمًا، ساخرًا، لاذعًا… فلم يزدد معسكر خصومه إلا تعنتًا وسبابًا وتهويشًا، يوم أصدر مجموعة قصصية ("الشيطانيات" 1925) مبنيَّة ـ في تقنيتها ـ على الفنتازيا المُرة والنقد العميق لجوانب بالغة الأهمية في الإنسان والحياة ـ يومذاك ـ على السواء.

وأشار نيوف إلى أن خلافات بولغاكف مع خصومه انفجرت أشد انفجار بسبب نشاطه المسرحي في أهم مسارح موسكو "مخات"، ولا سيما مسرحيته "أيام عائلة توربين" التي حضرها ستالين نفسه خمس عشرة مرة، ولم يحمِه من حملة الخصوم وتهجماتهم والتحريض العلني عليه لا دفاع لونَتشارْسكي ولا تقدير غوركي ولا العمل مع ستانسلافسكي، فمُنعت المسرحية أخيرًا من العرض. وفي سنة 1930م بلغ العداء ضده حدًّا لا يُحتمل، فتوجه إلى الحكومة السوفييتية برسالةٍ أسفرت عن مكالمةٍ هاتفية أجراها معه ستالين في بيته في 18 أبريل، كانت موجزة ودقيقة. قال له ستالين: "لقد استلمنا رسالتك، وقرأناها مع الرفاق، وستتلقى إجابةً حسنة عليها".

ثم سأله ستالين: "لعلنا، حقًّا، نسمح لك بالهجرة؟".

فأجاب بولغاكَف بوضوح: "لقد فكرت طويلًا في المدة الأخيرة: هل يستطيع كاتبٌ روسي أن يعيش خارج وطنه؟ ويبدو لي أنه لا يستطيع".

رد عليه ستالين: "أنت على حق. إنني أفكر مثلك".

وأنهى المكالمة.

لم يعد بولغاكَف مجهولًا للقارئ العربي بعد ترجمة روايته الشهيرة "المعلم ومرغريتا". ولعل ترجمة "قلْبُ كلْب" تكون خطوة إلى الأمام في إضاءة صورة هذا الكاتب الروسي الذي يمثل جزءًا هامًّا من خريطة أدب وطنه الذي رفع رايته عاليًا كلٌّ من دستويفسكي وتولستوي وتشيخوف وغيرهم..

مقتطف من القصة

بعد انقضاء عشرة أيام بلياليها على المعركة في غرفة الكشف بشقة البروفيسور بريوبراجينسكي الواقعة في زقاق أبوخَف، أصدر الجرس رنينًا حادًّا. وسَّببت الأصوات وراء الباب خوفًا مميتًا لزينا: الشرطة الجنائية والمحقق، تكرَّمي وافتحي.

تراكضت الخطوات، تعالى وقْعها، وأخذوا بالدخول، فاجتمع حشدٌ من الناس في غرفة الاستقبال المتألقة بالأضواء والخزانات التي أعيد تزجيجها من جديد. كان ثمة اثنان في زي الشرطة، وشخص في معطفٍ أسود ومعه حقيبة، والمسئول شفوندر وهو شامت شاحب، والفتى- المرأة، والبواب فيودَرْ، وزينا وداريا بتروفنا وبورمنتال الذي لم يكمل ارتداء ثيابه فراح يستر حنجرته خجلًا لأنه دون ربطة عنق.

خرج فيليب فيليبَفِتْش من باب مكتبه وهو يرتدي مريلته الزرقاء التي يعرفها الجميع. وكان بوسع كل واحدٍ أن يقتنع حالًا بأن صحة فيليب فيليبَفِتْش قد تحسنت كثيرًا في الأسبوع الأخير. وأمام زوار الليل مثل فيلي فيليبَفِتْش كما كان من قبل: قويًّا، حيويًّا، مليئًا بالكرامة، واعتذر لأنه في المريلة.

ـ لا تخجل يا بروفيسور ـ ردَّ الرجل المدني بارتباكٍ كبير، ثم تململ وأردف: ثمة شيء كريه جدًّا؛ فإن لدينا أمرًا بتفتيش شقتكم و… ـ مال الرجل بنظره إلى شاربَي فيليب فيليبَفِتْش ثم أكمل: وبالاعتقال، تبعًا للنتائج.

كوَّر فيليب فيليبَفِتْش عينيه وسأل: اسمح لي بالسؤال عن نوع التهمة ولمن؟

حكَّ الرجل خده وشرع يقرأ ورقةً من الحقيبة.

ـ بتهمة بريوبراجينسكي وبورمنتال وزيناييدا بوننا وداريا بتروفنا بقتل نائب مدير قسم التطهير في بلدية موسكو بوليغراف بوليغرافوفتش شاركف. غطى نشيج زينا آخر كلماته. ودبت حركة.

ـ لا أفهم شيئًا ـ أجاب فيليب فيليبَفِتْش وهز كتفيه هزةً ملكية ـ من هو شاركف هذا؟ آخ، عفوًا، تعنون كلبي.. الذي أجريت له عملية جراحية؟

ـ عفوًا يا بروفيسور، لا نعنيه كلبًا، وإنما عندما كان قد أصبح إنسانًا. تلك هي القضية.

ـ أي عندما كان يتكلم؟ ـ سأل فيليب فيليبَفِتْش… ـ إن هذا لا يعني بعدُ أنه أصبح إنسانًا. وعلى أية حال، فهذا ليس مهمًّا. إن شاركف ما يزال حيًّا حتى الآن، ولم يقم أحدٌ بقتله أبدًا.

ـ عندئذٍ يا بروفيسور ـ قال الرجل الأسود باستغرابٍ شديد ورفع حاجبيه ـ يجب إظهاره. لقد ضاع منذ عشرة أيام، بينما المعلومات، اعذرني، سيئة جدًّا.

ـ تكرَّم يا دكتور بورمنتال بإظهار شاركف للمحقق ـ طلب منه فيليب فيليبَفِتْش وهو يتناول الأمر. ابتسم الدكتور بورمنتال بسخريةٍ وخرج. وحين عاد وشرع يصفر قفز خلفه من باب المكتب كلب من نوعٍ غريب. كان في جلده بقع جرداء، وأخرى نبت فيها الشعر. خرج الكلب على خلفيته كأنه مدربٌ في السيرك، ثم وقف على أرجله الأربع وراح ينظر. خيَّم صمت القبور في غرفة المكتب كثيفًا كحلوى رجاجة. نهض الكلب الرهيب الشكل على خلفيته من جديد، وعلى جبينه ندبة قانية، فابتسم وجلس على الكنبة.

رسم الشرطي الثاني إشارة صليب واسعة على صدره وتراجع فداس على قدمَي زينا كلتيهما.

نطق الرجل ذو المعطف الأسود بالكلمات التالية دون أن يغلق فمه: وكيف، اسمحوا لي؟ … لقد كان موظفًا في التطهير …

ـ إنني لم أعيِّنه هناك ـ أجاب فيليبَفِتْش ـ لقد أعطاه السيد سفوندر تزكية. إن لم أكن مخطئًا.

ـ إنني لا أفهم شيئًا ـ قال الأسود محتارًا والتفت إلى الشرطي الأول ـ أهذا هو؟

ـ هو ـ أجاب الشرطي بصوتٍ أصم… شكليًّا هو.

ـ هو بالضبط ـ سمع صوت فيودَرْ. غير أن الوغد اكتسى بالشعر من جديد.

ـ كان يتكلم… خي- خي …

ـ وما زال يتكلم حتى الآن، إنما أقل فأقل، فلتنتهزوا المناسبة وإلا فإنه سرعان ما سيصمت كليًّا.

ـ ولكن لماذا؟ استفسر الرجل الأسود بصوتٍ خفيض.

هز فيليب فيليبَفِتْش كتفيه.

ـ ما يزال العلم لا يعرف طريقة لتحويل الوحوش إلى بشر. وها أنا قد جربت، ولكن دونما نجاح، كما ترى؛ فقد كان يتكلم وبدأ يتحول إلى الحالة البدائية. لكنه الارتداد إلى الأصل.

ـ ممنوع التعبير بكلماتٍ بذيئة! ـ فجأة نبح الكلب من على الكنبة ونهض.

بغتة شحب لون الرجل الأسود وأسقط الحقيبة وهوى على جنبه، فأمسك به الشرطي من الجنب وفيودَرْ من الخلف. حدث هرجٌ ومرج وكان أوضح ما يسمع إذ ذاك ثلاث عبارات: فيليب فيليبَفِتْش: "هاتوا قطرة فاليريانكا. هذا إغماء".

الدكتور بورمنتال: "بيديَّ هاتين سألقي بشفوندر من على السلم إذا عاود المجيء مرة ثانية إلى شقة البروفيسور بريوبراجينسكي".

وشفوندر: "أرجو تدوين هذه الكلمات في المحضر".

•••

كانت أكواع الأنابيب الرمادية تبعث الدفء. وكانت الستائر تحجب الليل الدامس ونجمته الوحيدة في شارع بريتشيستِنْسكَيا.

أما الكائن الأعلى، الصلف، المحسن على الكلب، فكان جالسًا في كنبته، فيما يضطجع الكلب شارك متكئًا إلى سجادةٍ بالقرب من الأريكة الجلدية. وفي الأصباح كان ضباب آذار يسبب له آلامًا تحيط برأسه كله على امتداد الجرح. غير أن هذه الآلام كانت، بفعل الدفء، تزول مع اقتراب المساء. أما الآن فقد هان الأمر، قد هان. وراحت الأفكار تنساب في رأس الكلب منتظمة ودافئة.

"كم أسعفني الحظ، كم أسعفني ـ خطر له وهو يغفو ـ لقد أسعفني على نحوٍ لا يوصف. ها قد استقرت بي الحال في هذه الشقة. وإنني لكامل الثقة بأن ثمة شيئًا يشوب أصلي. ولا بد أن للغطاس علاقة ما بذلك. فجدتي كانت داعرة، رحمها الله، تلك العجوز، حقًّا. لقد شقوا رأسي لسببٍ ما، ولكن هذا لن يلبث أن يلتئم. ولا داعي لنا للتفكير بذلك".

في مكانٍ غير بعيد كانت الزجاجات تصطدم وتبعث صوتًا أصم. فقد كان المعضوض ينظف الخزائن في غرفة الكشف.

أما الساحر الأشيب فكان جالسًا يدندن:

ـ "إلى شواطئ النيل المقدسة ".