اميركا افغانستان ليست اميركا العراق

العامل المشترك بين الاضطرابين الافغاني والعراقي هو إيران. الولايات المتحدة تتعامل بشكل مختلف معهما.
نجحت ايران في تسخير حركة طالبان لما يتلاءم مع مصالحها
الانسحاب الاميركي من العراق وسوريا يعني وصول الصين وروسيا الى مياه الخليج والبحر المتوسط

هناك حقيقة لا يمكن للمراقبين انكارها وهي ان ايران قد نجحت في تحقيق الكثير من الانجازات السياسية والميدانية في المنطقة مستفيدة من ضعف الموقفين الاميركي والدولي تجاهها خاصة في عهد ادارة (الضعيف) بايدن، وتمكنت من اخذ زمام الفعل في الكثير من الملفات المهمة في المنطقة، لتجعل المجتمع الدولي واميركا يتحركان ضمن مساحة ردود الافعال فقط.. فهي من تبادر مثلا في توجيه مفاوضات ملفها النووي، بينما تركت لاميركا وللغرب التحرك وفق مبادراتها وخطواتها في تلك المفاوضات. كذلك نجحت في تسخير حركة طالبان لما يتلاءم مع مصالحها التي اجبرت اميركا مؤخرا للانسحاب من افغانستان التي خاضت عليها حربا استمرت عقدين. كما ان وضع اميركا والغرب في العراق وسوريا ولبنان وموقفهما السياسي في اليمن ليس بأفضل من وضعهما في افغانستان، فقد استطاعت ايران اخضاع اميركا والغرب لارادة فصائل بالكاد نستطيع اطلاق وصف المليشيا عليها، جعلت من القواعد العسكرية الاميركية وسفاراتها وقنصلياتها اهدافا سهلة تصبح وتمسي على قصفها في اهانة واضحة لرموز السيادة الاميركية، دون ردود عسكرية من ادارة بايدن سوى ممارسة سياسة ضبط النفس والاحتفاظ بحق الرد في هذا الوضع المعقد الذي وجدت نفسها فيه. 

لكن ما نلاحظه مؤخرا ان ايران بدأت تنساق لنفس المطب الذي تقع فيه عادة انظمة الشرق الاوسط والتي بعد ان تحقق انجازات سياسية معينة ينتابها شعور بانها تحولت الى دولة عظمى لا يمكن مواجهتها، فتفقد توازنها السياسي وتبدا بارتكاب اخطاء استراتيجية تؤدي في الكثير من الاحيان لنتائج كارثية عليها. فبعد نجاح طالبان في اخراج اميركا من افغانستان، تحاول ايران الايحاء لميليشياتها بانها تستطيع استنساخ تجربة الانسحاب الاميركي من افغانستان في العراق وسوريا ايضا، مع انها تعلم جيدا الاختلاف الكبير بين الحالتين، وبان ما انجزته طالبان في افغانستان لا يمكن للفصائل المسلحة في العراق وسوريا انجازه. وهكذا بدأت طهران بدفع تلك الفصائل لتجاوز الخطوط الحمراء في المواجهة مع القوات الاميركية، وتكثيف قصفها لمواقع الجيش الاميركي وسفارتها وقنصليتها في العراق.

وهنا علينا ان نتساءل: هل ان اميركا المؤسسات تنظر الى العراق وسوريا مثلما تنظر لافغانستان وهل يمكن اجبارها على الانسحاب من هاتين الدولتين كما فعلت في افغانستان؟

بالنسبة لاميركا فان افغانستان هي خندق دفاعها الاول امام تمدد الصين وروسيا وسط وغرب اسيا، وما يهمها هو تعزيز ذلك الخندق سواء بتواجدها المباشر فيه (كما كان عليه الحال منذ عشرين عام) او خلق حالتين يضمنان لها نفس الهدف حتى في حال انسحابها وهما:

الحالة الاولى.. خلق فوضى خلاقة من خلال ترسيخ حالة توازن عسكري بين الحكومة الافغانية الحالية وحركة طالبان تؤدي الى ديمومة الصراع بينهما بعد انسحابها، وتخلق بؤرة تهديد مستمر لمصالح دول الجوار الافغاني (الصين، جمهوريات الاتحاد السوفيتي القديمة المدعومة روسيا، الهند، ايران).

الحالة الثانية.. اما اذا نجحت طالبان في السيطرة على كل افغانستان، فان وجود نظام عقائدي كحركة طالبان غير متجانس مع محيطه الاقليمي، يتبنى نظرية الجهاد المسلح اساسا لبنيته الفكرية، اضافة الى وجود جماعات متطرفة في دول الجوار الافغاني، يمكن لها ان تخلق تهديدات جدية لتلك الدول وفوضى خلاقة لاميركا يخدم نفس الهدف.

لذلك فالانسحاب الاميركي من افغانستان لم يأت الا بعد ان ضمنت ان انسحابها لن يؤثر على اهدافها الاستراتيجية في تلك المنطقة، وان خندقها الاول امام الصين وروسيا سيبقى يؤدي نفس الغرض سواء بقت هناك او انسحبت، فكان قرار الانسحاب.

واذا كانت افغانستان تعتبر خندق الدفاع الاول لاميركا والغرب فان العراق وسوريا يعتبران خندق الدفاع الثاني لهما، وان كان الانسحاب من افغانستان ينتج عنه فوضى خلاقة لاميركا، فان انسحابها من العراق والمنطقة سيخلق فوضى هدامة لها وخلاقة لمنافسيها نظرا للاسباب التالية:

1- بشكل عام فان اثارة الفوضى في المنطقة تتعارض مع المصلحة الاميركية الغربية في تهديد امدادات الطاقة لهما، وبالنسبة للعراق وسوريا فان الوضع مهيئ فيهما لايران في ملأ اي فراغ امني او عسكري يخلفه الانسحاب الاميركي منهما، وهذا لا يصب في مصلحة اميركا وحلفائها في المنطقة.

2- الانسحاب الاميركي من العراق وسوريا يعني وصول الصين وروسيا الى مياه الخليج العربي والبحر المتوسط، من خلال تنفيذ المشاريع الاقتصادية الاستراتيجية المعلقة بين الصين وروسيا وايران، خاصة مشروع طريق الحرير الذي سيربط اسيا مع شمال اوروبا عبر خط سككي يبدا من موانئ جنوب ايران الى روسيا ومنها الى شمال شرق اوروبا، او من موانئ جنوب ايران الى العراق ومنه الى سوريا والبحر المتوسط، ما يعني تغيير جميع توازنات الاقتصاد العالمي الى صالح الصين وروسيا.

3- سيطرة الصين وروسيا اقتصاديا على المنطقة ستؤدي الى سيطرتهما سياسيا وعسكريا ايضا، قد ينتج عنها اعادة خارطة التحالفات التي ستنساق اليها معظم دول المنطقة، وبذلك سينحسر النفوذ الاميركي السياسي والاقتصادي والعسكري الى ما وراء البحر المتوسط ليكون مساحته اوروبا فقط.

4- لن تستطيع اميركا في حال انسحابها من العراق وسوريا الاعتماد على تركيا في تقديم خدمة مليء الفراغ، مثلما فعلت في مطار كابول، فاية خطوة تركية بهذا الصدد ستعيد للذاكرة الصراع العثماني الصفوي القديم، مما يخلق لتركيا الكثير من المشاكل التي هي في غنى عنها. اضافة الى ان الوجود الروسي في سوريا سيعرقل قيام تركيا بهذا الدور نظرا للمصالح المشتركة بين ايران وروسيا هناك.

5- الانسحاب الاميركي من العراق وسوريا في هذه الظروف يهدد الوجود المصيري لاسرائيل وهي الحليفة الاستراتيجية لاميركا في المنطقة.

كما قلنا اعلاه فان ايران تدرك ان الانسحاب الاميركي من العراق وسوريا هو هدف صعب المنال، الا انها توحي للفصائل الموالية لها امكانية تحقيق ذلك الهدف، وتدفعها لاثارة الفوضى التي تصب في مصلحتها. ان هذه الفصائل بعملياتها ضد القواعد الاميركية لا تخدم فقط المصالح الايرانية بل تخدم المصالح الصينية والروسية، وهي اذ تحاول اخراج "الاحتلال" الاميركي (حسب تصورها) فهي تفتح بالمقابل المجال امام احتلال ثلاثي مركب ايراني صيني روسي في المنطقة، مما يدل على انها اما متورطة في عمالة مركبة للدول الثلاث، او انها تعاني من غباء سياسي مركب لا ينفع معها رؤية الحقائق.

اذا كيف يمكن ان تتعامل اميركا مع تهديدات هذه الفصائل المسلحة لها في العراق وسوريا؟

مثلما هو معروف فان سلاح الجو ليس بمقدوره حسم اي صراع على الارض، لذلك فان اميركا تحتاج الى عاملين للقضاء على تهديد تلك الفصائل.. وهما:

- تشكيل تحالف دولي شبيه بالتحالف الدولي ضد داعش يتضمن الدول الحليفة لاميركا لمحاربة الفصائل المسلحة في المنطقة، وتشير التطورات الى وجود مثل هكذا توجه، من خلال الاجتماع الذي ضم رئيس اركان الجيش البريطاني مع اقرانه من بعض الدولة العربية قبل فترة، وتأكيده على ان بريطانيا مستعدة للدفاع عن حلفائها في المنطقة ضد اي تهديد موجه اليهم. اضافة الى التسريبات التي تشير الى وجود الجيش الاميركي في جنوب اليمن والذي يفسر الانتصارات الاخيرة للجيش اليمني ضد مليشيات الحوثي.

- مثلما نسقت اميركا مع قوات الجيش العراقي وقوات البيشمركة وقوات قسد في العراق وسوريا لمحاربة تنظيم داعش، فهي بحاجة اليوم الى قوة برية للقضاء على تهديد الفصائل المسلحة في الدولتين، وفي راي فان الاطراف الثلاث التي قاتلت جنبا الى جنب مع قوات التحالف ستقاتل ايضا هذه الفصائل باعتبارها خطرا يهددها مثلما يهدد الوجود الاميركي.