اميركا.. انسحاب ام اعادة انتشار؟

كما تقاسم الشرق والغرب شبه الجزيرة الكورية، يتقاسم الروس والأميركيون مناطق النفوذ في سوريا.

في العام 1945 وبعد هزيمة اليابان وتوقيعها وثيقة الاستسلام، عيّنت واشنطن الجنرال دوغلاس ماكارثر حاكما عسكريا عليها، عقب انتهاء العمليات العسكرية للحلفاء التي انتهت بطرد اليابانيين من كوريا، ومن ثم ضرب اميركا اليابان بالسلاح الذري. وبعد الاجتياح المفاجئ للكوريين الشماليين، الشيوعيين، للجنوب الخاضع شكليا لادارة الامم المتحدة، وفعليا للولايات المتحدة في العام 1950، دخلت اميركا الحرب، بقيادة ماكارثر، الذي عاد قائدا عسكريا لقوات بلاده و"القوات الدولية". لقد ظن الكوريون الشماليون، ان قرار مجلس الامن الدولي، حينذاك، القاضي بانسحاب القوات الاجنبية من كوريا ومناطق اخرى في العالم، بعد انتهاء الحرب، بمثابة فرصة لتوحيد البلاد تحت العلم الاحمر، وهكذا بدأت الحرب الكورية التي استمرت ثلاث سنوات، وكانت من اسوأ واشرس الحروب التي شهدها العالم بعد الحرب العالمية الثانية. لم يقف الاتحاد السوفيتي بقوة مع الشماليين الشيوعيين، الذين دخلوا معه، من قبل، وعلى دباباته لتحرير بلادهم من الاحتلال الياباني، لان اجتياح الجنوب لم يكن بمشورتهم، بل تم بدفع من القيادة الصينية الماوية المنتشية بانتصار ثورتها الشيوعية واستقلال الصين في العام 1949 وبرؤية قادتها التروتسكية في تطبيق الشيوعية ونشرها، فجاء دعم موسكو محدودا، لان الكبار اتفقوا على تقاسم النفوذ في العالم، وان شبه الجزيرة الكورية تقرر تقسيمها في مؤتمر يالطا بالقرم في العام 1945 والذي جمع روزفلت وستالين وتشرشل، قبيل الهجوم الكبير على برلين واطاحة النازية. انتهت الحرب الكورية بعد ثلاث سنوات، من دون ان تتغير على الارض الخارطة المرسومة من قبل الكبار والى اليوم، لان شيئا من بقايا اللعبة القديمة ما زال بين الاميركان والروس، وان بعد انهيار الاتحاد السوفيتي وزوال الشيوعية.

مؤخرا، تابع العالم اخبار الانسحاب الاميركي من سوريا، وايضا تابع الاستقالات المثيرة، لوزير الدفاع جيم ماتيس، ومبعوث واشنطن للتحالف الدولي لمحاربة تنظيم داعش، بريت ماكغورك. واعتقد البعض ان اميركا هزمت في سوريا، وان الفراغ سيملأ من قبل خصومها في المنطقة، لاسيما ايران وتركيا، او هكذا صوّر الامر، بعض المحللين السياسيين.

الحقيقة، ان اميركا لم تنسحب من سوريا بشكل كامل، وانما جزئيا، وتخلت عن "قوات سوريا الديمقراطية" التي ارادتها ادارة اوباما، قناعا لتقسيم سوريا، من خلال ضم الشمال الشرقي منها الى شمالي العراق واقامة كيان كردي، كانت قد عملت لاجله بعد اندلاع الازمة السورية. لكن هذا الهدف، اصطدم بواقع دولي رافض وبمصالح الحليف التركي، فحصل بينهما جفاء نتيجة لذلك، وكاد اردوغان أن يدير ظهره لواشنطن ويتجه الى روسيا، او لوّح بذلك، فعادت اميركا وغيّرت من قواعد اللعبة في المنطقة.

تركيا باتت اليوم طليقة اليد في تعاملها مع "قوات سوريا الديمقراطية"، بمباركة واشنطن التي تخلت عنهم، لكن لوجودها وظيفة اخرى، تتمثل بمواجهة النفوذ الايراني او موازنته، منوهين الى ان هناك قواعد عسكرية لواشنطن قرب الحدود العراقية لمراقبة تحركات ايران من الداخل السوري، اضافة الى الوجود العسكري الاميركي غربي العراق، ما يعني ان الهدف الاميركي من القدوم الى سوريا، ومن ثم التفاهم مع الروس، وتغيير مسار الوضع هناك، جاء وفق ترتيبات مسبقة، تضمن موسكو فيها ضبط قواعد الاشتباك بين دمشق وتل ابيب، مقابل تفرغ اميركا للوقوف بوجه النفوذ الايراني ومحاصرته في ميادينه المتعددة وباليات مختلفة، او تحييده بما يجعله منشغلا وغير قادر على التمدد.. حرب اليمن، والاعتداءات الاسرائيلية المتكررة على اهداف، تراها اسرائيل تابعة لايران، في سوريا، مثلا. وربما هناك احداث واهداف اخرى في الطريق.

الخلاصة، ان اميركا لن تترك المنطقة، كما يتصور البعض، وان هناك تفاهما عميقا بينها وبين روسيا، تتغير داخله الكثير من التكتيكات والخطط الميدانية، لكن الرؤية الاستراتيجية المشتركة للمنطقة ومستقبلها، ونفوذ كل دولة فيها، يبقى امرا اساسيا بين الطرفين، وهو ما ينبغي ان تعرفه دول المنطقة جيدا، من اصدقاء الاميركان والروس او اعدائهما معا، لاننا يجب نتعلم من دروس التاريخ، القريبة والكثيرة ايضا!