ايران وإستراتيجية استباحة الدول بميليشيات مرتزقة من أبنائها

ميليشيات مفصلة تفصيلا لكل دولة: حزب الله في لبنان، الحوثي في اليمن وقائمة طويلة من "أحزاب الله" في العراق.

بعد وصول عمائم ولاية الفقيه الى الحكم في ايران عبر ما سمي بالثورة الاسلامية الايرانية، وتطبيقها لمبدأ سُلطة مرشد الثورة، الولي الفقيه، الجامع للشرائط، والوكيل عن الإمام الغائب، والمطلق الصلاحيات بما يشبه العِصمة التي ينسبها البعض للأنبياء والأولياء، طَرَحَت مبدأ تصدير الثورة الى باقي الدول. وقد استخدمت لتحقيق هذا الهدف طرق مختلفة باختلاف ظروف وطبيعة كل دولة سَعت لتصدير الثورة اليها، ولكنها جميعاً كانت تستند على إستراتيجية تشكيل ميليشيات من أبناء تلك الدول موالية لإيران وتأتمر بأمرها، مرتبطة مع بعضها البعض بشبكة عنكبوتية يديرها أحد أعتى جنرالاتها وأخلصهم لثورتها الإسلامية ومشروعها التوسعي، هو الجنرال قاسم سليماني قائد فيلق القدس التابع للحرس الثوري الإيراني.

كانت الطريقة سلسة مع لبنان مثلاً بسبب طبيعة بُنيته المجتمعية، كون الشيعة كانوا الحلقة الأضعف فيها، وهو ما إستغلته ميليشيا حزب الله لتُظهر نفسها حامية لحِمى شيعة لبنان، فحاربت بإسمهم في الحرب الأهلية اللبنانية، وهيأت ايران لقيادتها شاباً غَضاً خاماً ربّته على يدها ولقّنته مشروعها وسُمّها ليكون وكيلها هناك، فبات الطريق مُعَبّداً له ليصبح الحلقة الأقوى في لبنان بعد الحرب، ولم يكن ينافسه في ذلك سوى خالد الذِكر الراحل رفيق الحريري، لكن بمحبة الناس له لطيبته ورُقيّه ووطنيته التي كانت عابرة للطوائف، وليس لطائفيته وزعرنته وجبروته، لذا إغتاله مرتزقة ايران في لبنان بتوجيه من المخابرات الايرانية والسورية وبالتنسيق معها، ليخلو لهم الجو تماماً، وهو ما يحصل بالفعل منذ وفاته والى اليوم.

أما مع العراق فقد كانت الطريقة عنيفة تناسب طبيعته لتستفزها، تمثلت بالتحرش بالحدود العراقية، ودَعم حزب الدعوة، الذي كان يتحرك حينها ضمن المجتمع توعَوياً بالسِر، فحَرّضته كي يتحول الى الكفاح المُسلح لقلب نظام الحكم وجَعله على شاكلتها، مما أدى فيما بعد الى إندلاع الحرب العراقية الايرانية التي إستمرت ثمان سنوات، والتي رغم ما حَصَدته من أرواح الملايين من شباب البلدين، فقد وصف الخميني إيقافها بأنه تجَرّع للسُم، لأن العراق كان ولا يزال يُمثل محور مشروعه لتصدير الثورة، وحينما فشل في الحرب سَلك طريقاً ثانياً غير مباشر وطويل الأمد، تمثل بإختراق المعارضة العراقية التي إستلمت الحكم بعد سقوط نظام الرئيس السابق صدام حسين، لكنه أوصلها في النهاية الى مُبتغاها، فها هي تحكم العراق اليوم ليس بميليشيا واحدة كحزب الله في لبنان، بل بعشرات الميليشيات التي نجحت في تجميلها بعيون العراقيين، وباتت بالنسبة للكثيرين منهم تيجان رؤوس وخطوط حمراء!

كذلك فعلت مع الحوثيين في اليمن، مستغلة الفوضى السياسية التي عاشها خلال السنوات الأخيرة، فإستضافت الحوثي وغسلت عقله وأمَدّته بالمال والسلاح وأعادته الى اليمن ليبدأ بتنفيذ مشروعها فيه. بالإضافة طبعاً الى الكثير من حركات الإسلام السياسية السنية، كحماس الفلسطينية، والشباب المسلم الصومالية، وحتى طالبان الافغانية، التي باتت جميعها أذرعاً للنفوذ والمشروع التوسعي الإيراني، ليس في المنطقة فقط بل والعالم، بدليل ردود أفعالها الأخيرة مثلاً على مقتل سليماني بغارة أميركية نوعية في العراق قبل أيام، إذ كان اسماعيل هنية رئيس المكتب السياسي لحماس يتصَدّر المُعَزّين بمقتله والمشيعين له في ايران ونعاه بكلمة عصماء وصفه فيها بـ"شهيد القدس"، كما نددت حركة طالبان بمقتله في بيان لها جاء فيه " لقد أُبلِغنا بحزن شديد أن الجنرال قاسم سليماني قتل في هجوم شنته القوات الأميركية الهمجية"، بالإضافة الى أن أول هجوم إنتقامي تعرضت له قاعدة أميركية في العالم بعد موته كان في كينيا من قبل حركة الشباب المسلم وليس من قبل حزب الله أو الحوثيين أو الحشد، بل سبق رد الحرس الثوري الايراني يوم أمس!

بعد أن تقوم ايران بتأسيس أو إعادة هيكلة ميليشيا في بلد معين مِن رعاع وهَمج وسُذّج أبناءه، عبر شرائهم بالمال أو تهييج وإستثارة غرائزهم البدائية الطائفية أو الدينية، تبدأ بسياسة ترويض مجتمعه ودغدغة مشاعره وتدجينه ليتقبلها ويتقبل أفكارها وممارساتها التي تمثل عادةً جزئاً أساسياً مِن مشروعها في ذلك البلد، حيث تروج لأفكارها المسمومة على أنها محاولة لنشر العقيدة والإسلام، ولمُمارساتها الإجرامية على أنها دفاع عنهما. والترويض على نوعين: ترويض بالترغيب عن طريق إستخدام الدين وملحقاته كالمذاهب لدغدغة مشاعر الناس ودفعهم للتعاطف مع مشروعها ووكلائها بهذه الدول من تلقاء أنفسهم، فتَم غسل أدمغة الناس بوَهم مظلوميتهم ومَنعِهم من أداء طقوسهم المذهبية التي قيل لهم بأنها من شعائر الدين، وإقناعهم بأنهم إذا حكموهم فسَيوفرون لهم حرية ممارستها، ويضمنون لهم رضى أهل البيت وشفاعتهم في الآخرة لأنهم أحيوا شعائرهم في الدنيا، وبالتالي سيكسبون الدين والدنيا، لكن كان ما كان، وسقط الناس في الفخ فلا طالوا ديناً ولا دنيا، وقد إكتشف العراقيون واللبنانيون ذلك لكن متأخراً.. وترويض بالترهيب، إما بطريقة غير مباشرة عن طريق إظهار الميليشيات بشكل يُرعب الناس، كإرتداء مرتزقتها للسواد والأقنعة وتجوالهم بسيارات مصفحة، أو بشكل مباشر عبر إختطاف أو إغتيال من يعارضونها أو ينتقدونها بين الحين والآخر.

الجدير بالذكر هو أن دور مرتزقة أغلب هذه الميليشيات لا يتوقف على بلدانهم وأوطانهم، بل يتجاوزها أحياناً الى الدول المجاورة لها، التي تحاربها ايران بمرتزقة جيرانها بالوكالة وليس بشكل مباشر، كما في حالة ملشيا حزب الله اللبنانية مع إسرائيل، أو حالة ميليشيات الحوثي في اليمن مع السعودية، وميليشيات الحشد في العراق مع السعودية أو أميركا، فبعد أن قضَت الأولى على اليمن والثانية على العراق وجعلت منهما خرائب، إنتقلت الى السعودية، فدخل الحوثيون معها حرب إستنزاف من اليمن منذ سنوات، فيما بدأت ميليشيات الحشد في العراق، التي أسّسَت لها بفضل فيلم داعش موطئ قدم وقواعد في المنطقة الغربية قرب حدود الاردن والسعودية وسوريا، بمهاجمة الثانية ودعم الثالثة، كما حصل مع حادثة إطلاق الصواريخ على آبار النفط السعودية، أو على القواعد الأميركية الموجودة في العراق بموجب إتفاقيات دولية! بالتالي هي تدمر الدول بميليشيات مرتزقة من أبنائها، وتهاجم أخرى وتستنزفها وتلعب معها بنفس هذه الميليشيات، وكل هذا دون أن تحرك جندياً، أو تترك أثراً يدل عليها.

أما التمويل المالي لهذه الميليشيات فهو يأتي من مصدرين..الأول من أموال بلدان الميليشيات نفسها كما يحصل مع العراق وأمواله وعائدات نفطه التي تذهب الى جيوب الميليشيات وتصرف على تجهيزها..أما الثاني فهو عِبر خلايا نائمة مجتمعية في دولها وجالياتها حول العالم، وظيفتها تقديم الدعم المعنوي اﻻعلامي عن طريق مواقع التواصل اﻻجتماعي والفضائيات، والدعم المادي عبر مشاريع تجارية تبدأ من محلات البقالة وبيع الهواتف النقالة وصولاً الى اﻻتجار بالرقيق والسلاح والمخدرات، تذهب أموالها لدعم هذه الميليشيات. وبالتالي هي تمول نفسها بنفسها، وما يفيض يذهب ﻻيران لدعم نظامها بمواجهة الحصار الذي فرصته أميركا عليه، أي ينطبق عليها تماما المثل العراقي القائل "من لحم ثوره وأطعمه" وبالتالي فهي تنفذ مشاريعها، وتنمي إقتصادها، وتحارب الآخرين أو تفاوضهم، دون أن تخسر مواطناً أو قرشاً واحداً.

لكن قبل أيام حصل، كما ذكرت، تطور خطير، أصاب هذه الإستراتيجية التي تمثل عصب منظومة تصدير الثورة، والأداة اﻻساسية لمشروعها التوسعي بالمنطقة، في مقتل، بعد إغتيال الولايات المتحدة لمُهندسها والمُمسك بخيوطها الجنرال قاسم سليماني في عملية نوعية، ومعه ذراعه الأيمن الميلشياوي العراقي أبو مهدي المهندس، نائب رئيس هيئة الحشد والممسك بخيوط ميليشياته والعالم بخفاياها أكثر من رئيسه الشكلي فالح الفياض. لذلك لن يكون تعويضهما معاً سهلاً لايران، لأنهما مُحَصّلة خبرة 40 سنة في حروب العصابات والميليشيات، ويتحكمان بشبكة عنكبوتية ﻻ تقتصر على دول المتطقة، بل تمتد الى جنوب أميركا وأوروبا وأفريقيا، وقد أشرفا على القيام بالعديد من العمليات فيها.

بالنهاية هنالك سيناريوهات عديدة ممكن توقعها لتداعيات هذ الحدث أبرزها إثنان. الأول هو إمكانية أن يعود الحدث على ايران بالفائدة في حال وظفته لخدمة مشروعها ورَص صفوف جبهة ميليشياتها، بعد أن خسرت نفوذها وسُمعتها في الشارعين العراقي واللبناني مؤخراً، لتسويق نفسها من جديد، وكسب عَطف الشارع المسلم المعادي لأميركا بفطرته الساذجة، الشيعي بالأخص، للالتفاف حول ميليشياتها بمواجهة أميركا عبر شعارات مقاومة اسرائيل واﻻمبريالية لتفاوض بهم أميركا من جديد. أما السيناريو الثاني فهو إحتمالية أن يكون هذا الحدث وبالاً عليها، وهذا ما نرجوه ونتمناه طبعاً، وبداية لنهاية عصر ميليشيات المرتزقة التي دَمّرت ونخرت واستباحت البلاد، وقتلت وأرعَبت وأرهَبت العباد، على مدى سنوات وعقود مضت في العديد من الدول العربية واﻻسلامية، وجَهّلت وأذَلّت ومَسَخت مجتمعاتها، وحَوّلت دوَلها الى بقرة حلوب لاقتصادها، وشعوبها الى مرتزقة وقطعان لخدمتها، وأراضيها الى ساحات لتصفية حساباتها مع الآخرين. والأيام القادمة كفيلة بأن تظهر لنا أي من هذه السيناريوهات أكثر واقعية وقرباً الى الحقيقة.