أراد ترامب أن يُهين زيلنسكي فأهان نفسَه وأهان أميركا
حين إلتقى الرئيس الأميركي دونالد ترامب بالرئيس الأوكراني فولوديمير زيلنسكي في 28 فبراير -الذي سَيذكُره التأريخ طَويلاً- بدأ كلامه بكلمات مُجاملة، مُتَصَوّراً بأنه سَيَنخَدع بها، ولن يَأخذ غَلوة ليُوَقِّع على إتفاق إستثمار المَعادن النادرة في بلاده. لكن حَدَث ما لم يكن في حُسبانه، فقد إنقلب سِحره عليه، وبدأ زيلنسكي كلامه واًصفاً بوتين بالإرهابي وذكّره بغزوه لأوكرانيا عام 2014، وأنه قد وَقّع مَعه إتفاقاً عام 2019، لكن بوتين خَرَقه 25 مَرة، ثم إعتَرَض على نقد ترامب للدَعم الأوروبي، وحينما حاول فانس نائب ترامب إبتزازه بقوله: "إنك تعاني مِن نقص في الجنود"، بمَعنى إن لم نُساعدك سَتخسَر الحرب، أجابه زيلنسكي: "وأنتم سَيَكون لديكُم مَشاكل". هنا تفاجأ ترامب وفقد أعصابه، فهو لم ينتظر هذا الرَد مِن شَخص يَنظر إليه كمُجَرّد مُمَثل، وفق رواية بوتين، التي يَتبَنّاها كما يَتَبَنّى وَصفه زيلنسكي بالدكتاتور، وأنه مَن بَدأ الحَرب، وكلها أكاذيب يُردِّدها ترامب كالبَبَغاء!
بغض النظر عَمّا قيل في هذا اللقاء، إلا أن الواضِح، هو أن ما حَدث كان إبتزازاً عَلنياً لزيلنسكي لدَفعِه للتوقيع على عَقد إستثمار مَعادن أوكرانيا لترامب، الذي يُدير البيت الأبيض والعالم بعَقلية شَركة مُقاوَلات عِبر حَشِر زبونه في الزاوية. أن تَسرُق صَفقة مِن تاجِر مُنافِس غير أن تَسرُق دولة مِن أصحابها، وهذا على ما لا يَفهَمه التاجِر الذي ما يَزال داخِل ترامب، بدليل أنه لم يَتعلم مِن تجربته السابقة، وبَدَلاً مِن أن يُحسِن إختيار بطانَتَه، أحاط َنَفسَه بحَفنة مُهَرّجين. وقد فَكّر بهذا الشكل حين سَعى لتَحقيق سَلام مَع الجَلاد لِفَرضِه على الضَحِيّة! وإذا إستمَر في هذه السِياسة المُبتَذَلة سَتفقِد أميركا ثقة حُلفائها ثم تَخسَرَهُم تَدريجيا، مِمّا سَيؤدي لتَصغيرها، بعَكس ما رَفَعَه ترامب شِعاراً لحَملته الإنتخابية، وهو جَعِلها عَظيمة! فعَظَمة أميركا ليسَت بالبَلطَجة وجَمع الأتاوات، بل بقِيَمها العَظيمة التي وَضَعَها الآباء المؤسِّسين، من أمثال جون آدمز وبنجامين فرانكلين وتوماس جيفرسون وجورج واشنطن، الذين لا نَعلَم ماذا سَيَكون رَد فِعلهم لو جائوا اليوم، وَوَجَدوا هذه الدولة العَظيمة التي وضَعوا أسُسَها، يَحكُمُها ويَدوسُ على قيَمَها حَفنة مُهَرّجين مِن أمثال فانس وماسك وزَعيمُهُم ترامب.
السياسة فيها مِن التِجارة عَقد الصَفَقات، لكنها ليسَت كُلها تِجارة، وترامب يُريد أن يَجعَلَها كذلك، وهذا مُستحيل، خُصوصاً لدولة كأميركا، وَضَعَت أسُس وقِيَم العالم الديمقراطي الحُر ودَفَعَت الكثير لإرسائه على مَدى قَرن مَضى، وعَلّمَتها لأغلب دول العالم، وهي اليوم تَتَنكّر لها ولأصدِقائها الغَربيين الذين يُشاركونَها الإيمان بها، وتَلتَفِت الى أعدائَها كروسيا، مُتناسية أنها حليفة إيران وكوريا الشمالية وكل الدول التي تَنبَح ليل نَهار على أميركا، وتَتَبَنّى مُعاداتِها كعقيدة آدولوجية. فالصَديق والعَدو لا يَتَحَدّد وِفق المَصالح فقط، بل ووِفق القيَم والتأريخ والجُغرافيا، فكُلها مُجتمِعة تُحَدِّد مَن العَدو ومَن الصَديق. لكن ترامب لا يَقرأ التأريخ، لأنه لو فََعَل لعَلِم بأنه ليسَ هناك دَولة في العالم شَوّهَت صورة أميركا وزَرَعَت الكُره تِجاهَها حَول العالم كما فَعَل الإتحاد السوفيتي، الذي خَرَج بوتين مِن جُحوره ونِظامَه وَريث لأمراضِه. لكن كل هذا لا يُهِم ترامب، لأنه يَلتقي مَع بوتين في دكتاتوريته ورَجعِيّتِه، فهذا هو ما يُهِمه، حَتى وإن كان الأمر على حِساب مَصلحة أميركا التي نَعرِف، والتي حينَما يَقول بأنه يُريد جَعلها عَظيمة، فيَعني أن يَجعلَها شَبيهة بروسيا، دَولة شُمولية دِكتاتورية يَتَحَكّم بها ويَحكُمُها الأوليغارشية. لذا خِلاف ترامب الأساسي هو مَع أوروبا وليسَ روسيا، فترامب لا يؤمِن بالنَموذج الليبرالي الديمقراطي المؤسّساتي الذي تُمَثِّله أوروبا، ويَسعى لإفشالِه في أوروبا، كما يَفعل اليوم في أميركا.
وعَودة الى اللقاء، عِندما وَصَل زيلنسكي إلى البَيت الأبيض، كان تعليق ترامب وهو يُصافِحَه: "أنت تَرتدي مَلابس جَميلة اليوم"، وكان يُمكن حَمله على سَبعين مَحمَل حَسن لو سارت الأمور بَعدها كما يُرام. لكن ما حَدَث بعدها أوحى بأن هنالك أمر دُبّر بليل، كان أداته الصَحفي بريان غلين، مُراسِل شَبَكة يَمينية تُدعى (صَوت أميركا الحَقيقية)، الذي سُمِح له بدُخول البيت الأبيض وهو نكِرة، بينما حُرِم مِنه عَدَد كبير مِن الصَحفيين المُحترمين، والذي بَدَلاً من أن يسأل زيلنسكي عَن بلاده وشَعبها، أزاح السِتار عَن مَسرحية "ترامب-فانس" بسُؤاله عَن مَلابسِه: "لمَ لا تَرتدي بَدلة؟ أنت في حَضرة أعلى مَسؤول بهذا البَلَد" ليُمَهِّد الطَريق لفانس وترامب اللذان كان تَواطئهم مَعه واضِحاً مِن خلال إبتسامتِهم بَدَل إسكاته! ولا نَدري ماذا يُهين حَضرة المَسؤول أكثر؟ مَلابس حَرب لزَعيم بلد تُحارِب؟ أم وقوف مُساعِدَه المَعتوه ماسك في حَضرته بالتيشَرت! أو مَسح إبنه لمُخاطه على مَكتَبه؟ لذا على الأوكرانيين أن يَفخَروا أن لدَيهم رَئيس شُجاع كزيلنسكي سَيُسَجِّل له التأريخ صُموده أمام ترامب، وقبله بوتين، اللذان تخضَع وتتمَلّق لهُما أغلب قيادات العالم. فهو لم يَضعُف بوَجه وحشية بوتين، ولم يَرتبك بمُواجَهة غطرَسة ترامب أو يَرضَخ لإبتزازه رَغم حاجَته لمُساعَدَتِه. مِن الواضِح أن ترامب ونائِبه تركوا التسجيل مَفتوحاً لإحراج زيلنسكي وإهانتِه، لكن بالنهاية أحرَجوا وأهانوا أنفسِهم وبلادهم وقللوا مِن هَيبَتها حين أظهَروا بأن مَن يَحكمَها هُم حَفنة مُهَرّجين. وبَدا الفَرق واضِحاً بَينهم بطريقة الجُلوس والمَلامِح، إذ ظَهَر زيلنسكي هادِئاً واثِقاً من نَفسه، وترامب تافِهاً مُستَفَزاً. كانوا يُريدونه أن يُوَقِّع على بَياض ويَشكُر ترامب على تسويَتِه المٌريبة مع بوتين! وهو ما أكّدَه السِناتور غراهام: "قلت لزيلنسكي ألا يَطلُب ضَمانات، إلا أنه إفتَعَل الجِدال بإصرارَه عليها وعَدَم شُكر الرَئيس على جُهود التَسوية"َ!
بالنهاية زيلنسكي لم يَكسب إحترامَه لنفسِه وإحترام العالم له فقط. بل حَقّق إنجازاً سَتشكره عليه أوروبا طَويلاً، كما سَتفعل على صَدِّه وبلاده بوتين حِماية لأمنِها، وهذا الإنجاز هو توحيده لها. فأغلب الدول الأوروبية إنحازَت لأوكرانيا وزيلنسكي عَلناً بَعد هذا المَوقف، وهو أكثر مِمّا كان ينتظِرُه زيلنسكي. هذه الدَقائق التي جَمَعَت بينه وبَين ترامب، أفقَدَت الولايات المُتّحِدة ما جَعَلها دولة عُظمى، وخَسِرت بسَبَبها ثِقة حُلفائها، ودَفعَت بالغَرب الحَليف لها لإعادة النَظَر بهذه العِلاقة، فهي لم تُعَد حَليفاً يُعتَد به، وقد تنقلِب عَليك وتَبيع وتَشتري فيك وتُجبرُك على تسليم أراضي بلادك، أو تَبتزّك لتُسلِّمَها مَواردك، أو تُحَمِّلك مَسؤولية حَرب أنت فيها الضَحِيّة وتُدافِع فيها عَن قيَمها، كما حَدَث مع زيلنسكي. لذا قَرّر الأوروبيون أن يَكون لهُم جَيشُهُم الخاص وتِرسانتِهِم العَسكرية الخاصة، وأن يُنهوا إعتمادَهُم على الولايات المُتحدة وقواعِدها العَسكرية.
الحُروب فيها مُعتدٍ، ومُعتدى عليه، ومحاولة خلط الأوراق في هذا الأمر لا تخدُم مَن يَسعى لإقرار سَلام حَقيقي، وليس شَكلي لأغراض الدعاية، كما يَفعل ترامب، الذي جَلَس مَع المُعتدي لصُنع سَلام بغياب المُعتدى عليه، وفَرَضَه عليه كأمر واقع بأسلوب البَلطجيّة. لن يَتحَقّق السَلام في أوروبا دون كَسر شوكة بوتين وإجباره على التعايُش مع أوكرانيا كجُزء مِن مَنظومة الإتحاد الأوروبي السياسية والعَسكرية التي يَنبغي صياغَتها مِن جَديد لمَنع ظهور أمثال بوتين مُستقبلاً. وهذا أمر صَعب على بوتين والعَقلية السياسية الروسية الحالية. لذا أي ضَمانات قادمة لا قيمة مادام بوتين ونظامَه مَوجود، فما الذي يَضمُن عَدَم تجاهُل أي ضَمانات جَديدة يَتم وَضعَها، كما تَم تَجاهل وإنتِهاك التي سَبقتها لعَشَرات المَرّات؟