حكم البعثيين، لا شفنا وحدة ولا ذقنا حرية ولا عشنا إشتراكية

بدل توحيد العرب والنهوض بشعوبهم وإستغلال مواردهم لجعلهم قوة إقليمية كبيرة مؤثرة، على شاكلة الإتحاد الأوروبي، تسبب البعث بتمزيق العرب.

كان حزب البعث أكثر الأحزاب الثورجية الشمولية، التي ظهرت بالمنطقة العربية في النصف الأول من القرن العشرين، حظا في حكم دولها، لكنه للأسف لم يستغل الفرصة ليحفر إسمه في التأريخ كحزب ذو رؤية إنسانية عقلانية، بل إنتهى به الأمر ملعونا، يضرب به المثل على الأحزاب الدكتاتورية التي دمرت أوطانها وبددت خيراتها وقمعت شعوبها، ووعدتها بأهداف لم تحقق منها شيئا. فقد رفع البعث ثلاثة أهداف صدع بها رؤوس العرب، هي الوحدة والحرية والإشتراكية، لكنه حتى سقوط نظاميه في العراق وسوريا، لم يحقق ولا واحدة منها، بل تسبب أحيانا في نقيضها!

السبب هو أنها كانت مجرد شعارات، لم تجد طريقها الى التطبيق، لأنه كان مستحيلا لعدة أسباب. أبرزها أن من وضعها، إما لم يكن مؤمنا بها ورفعها لمجرد تسويقها كبروباغندا لدغدغة مشاعر الشعوب التي كانت تطرب لسماعها، أو لأنه كان مؤمنا بها بإندفاع المراهق كالملك غازي وقاسم وصدام، وليس بوعي الحكيم كفيصل الأول ونوري السعيد وعبدالرحمن عارف، لذا لم يعرف كيف يطبقها على أرض الواقع، وحينما حاول فشل، أو فعل ذلك بطريقة خاطئة. فالوحدة لا تعني أن تحتل جيرانك، كما فعل صدام مع الكويت، وقبله عبدالناصر مع سوريا واليمن. والحرية لا تعني أن تفعل أنت وعشيرتك وأتباعك ما يحلو لكم، فيما لا يمكن للشعب أن ينبس ببنت شفة. والإشتراكية لا تعني أن تصادر جهود الناس لتوزعها على غيرهم ممن لم يبذلوا جهدا! كما حدث في مصر والعراق وليبيا مع أصحاب الأملاك والمشاريع التي نهضت بإقتصادها، ليأتي انقلابيو الأحزاب الثورجية ويقومون بمصادرتها بحجة توزيعها على الآخرين.

بدل توحيد العرب والنهوض بشعوبهم وإستغلال مواردهم لجعلهم قوة إقليمية كبيرة مؤثرة، على شاكلة الإتحاد الأوروبي، تسبب البعث بتمزيق العرب. فبعث العراق بإحتلاله للكويت، وبعث سوريا بإحتلاله للبنان، أوجدا شرخا بين شعوب هذه الدول ومزقا اللحمة التي جمعتها قبل فعلتهما الدنيئة. بالنتيجة، كيف لحزب فشل على مدى نصف قرن في توحيد جناحيه العراقي والسوري، بسبب صراعاته الفئوية، أن ينجح في توحيد22 دولة عربية! بالنسبة للحرية، كانت الدول التي حكمها البعث أكثر دول المنطقة رعبا وإنتهاكا لحرية الإنسان وكرامته. بدليل مجازر صدام عام1991، ومجازر الأسد الأب عام 1982، والإبن بعد 2011، وما رأيناه مؤخرا في سجن صيدنايا الذي كان يعج بآلاف المعتقلين! أما الإشتراكية، فكل ما كسبه العراقيون والسوريون منها هو تراجع إقتصادهم، ووقوفهم طوابير لشراء المحروقات والسلع الستوك!

ليس غريبا أن لم تتحقق هذه الأهداف على مدى عقود، رغم حكم البعث لدولتين مهمتين متجاورتين كالعراق وسوريا. فلا يمكن أن ننتظر من حزب نشأ مؤسسه في بلد لم يعرف سوى الإنقلابات، أن يطبق الحرية بمفهوم عقلاني، ولا من سطوا على حزبه من بعده كصدام والأسد اللذين فهما الحرية بمعنى أن يسرقا ويقتلا على هواهم! ولا يمكن أن ننتظر ممن عاش جل شبابه شقاوة كصدام، أو عسكري لم يتعلم سوى الشخط والنتر كحافظ الأسد، أن يسعى للوحدة كما فعل فيصل الأول ونوري السعيد في مشروع الهلال الخصيب، الذي كان سيضم العراق وسوريا والأردن والكويت بطريقة حضارية وليس بالقوة! ولا يمكن أن ننتظر ممن نشأوا في بيئات مأزومة طبقيا، أن يفهموا إشتراكية ماركس أو يطبقوها بشكلها العقلاني، فما فعلوه من إستلاب لحقوق شعوبهم وخيرات بلدانهم طبيعي بالنسبة لأمثالهم، لذا بدل أن يوفروا حياتا كريمة لشعوبهم، وفروا حياة باذخة لأنفسهم وأفقروا شعوبهم وبلدانهم، وأضاعوا خيراتها بمغامراتهم العبثية.

مجتمعاتهم نفسها لم تكن، وما تزال، لا تفهم هذه الأهداف الثلاثة، ولم تنشأ عليها، ففاقد الشيء لا يعطيه. لذا الى اليوم، لا يزال أكثر العراقيين يفهمون الوحدة بأسلوب صدام أي بالقوة، ولا يضيعون فرصة إلا ويهلوسون بها أن الكويت عراقية، وستعود لهم، بأسلوب وعيد سفيه وتهديد فج، لأنهم لا يفهمون سوى هذه اللغة، ولا زالوا يؤلهون رموزها، كعبدالناصر وغازي وقاسم وصدام. وحين منح العراقيون الحرية بعد2003 أساءوا إستخدامها، وفهموها فوضى وإنتخاب الساسة على أسس طائفية وسرقة ممتلكات الدولة وحقوق الغير وظلمهم، فبات من كان يدعي بأنه ضحية جلادا لشركائه في الوطن!

رغم أن فترة حكم البعثين في العراق وسوريا شهدت صراعا مستمرا بين نظاميهما بسبب السلطة، وصل الى درجة قطع العلاقات الدبلوماسية لعقود! ووقوف سوريا مع إيران في حربها ضد العراق! ما أكد بأن قياداتهما لم تكن تسعى لتحقيق أهداف حزبها ولا هم يحزنون، بل كانت منشغلة بأهدافها الشخصية والفئوية. إلا أنهما أتفقا على مسألة واحدة فقط، وهي السيطرة على شعبيهما وقمعهما وتدجينهما بشعارات كاذبة كالوحدة والحرية والإشتراكية، والمتاجرة بالقضية الفلسطينية. والنتيجة فقر وجهل وإستنزاف للموارد وإنهيار للإقتصاد والمجتمع. بإختصار، إستلم البعث البلدين لحم ورماهما عظم.