هل تقبل السعودية أن تتقاسم إيران وإسرائيل نفوذ شرق أوسط جديد
استبدلت الولايات المتحدة والدول الغربية نظام الشاه بنظام الملالي بهدف منع قيام أيّ تحالف إقليمي قد يهدد أمن إسرائيل. وقد دعمت إيران إسرائيل في ضرب المفاعل النووي العراقي عام 1981، وهو المفاعل الذي أُنشئ بالتعاون مع فرنسا عام 1975 في عملية سُميت "عملية بابل". سبقت تلك الضربة غارة إيرانية غير مؤثرة وغير ناجحة أثناء حرب الخليج الأولى التي بدأت في سبتمبر 1980، وعُرفت باسم “قادسية صدام”، بينما سمتها إيران "الدفاع المقدس".
سعت إيران إلى إقامة تفاهمات مع إسرائيل، وكانت تعلن أنها لا تستهدفها مباشرة، لكن مصالح الطرفين ما لبثت أن تصادمت، خاصة مع سعي إيران للتمدد في المنطقة العربية ضمن طموحاتها لإحياء إمبراطوريتها الفارسية. ونازعتها تركيا بعد ثورات الربيع العربي بمحاولات استعادة "العثمانية الجديدة"، خصوصًا بعد فشل التعاون التركي – السعودي في كبح النفوذ الإيراني في سوريا. ومع دخول روسيا على خط الأزمة السورية، انقلبت الموازين لصالح طهران، فتراجعت تركيا سريعًا، واتجهت لتعميق علاقاتها مع السعودية والدول الخليجية الأخرى، خاصة بعد ارتفاع معدلات التضخم وتراجع العملة المحلية، ما وضع زعامة الرئيس رجب طيب أردوغان على المحك.
تعايشت إسرائيل مع إيران من خلال وكلائها في المنطقة، خاصة بعد أن أصبحت إيران فعليًا جارة لها. أرادت طهران أن تعترف إسرائيل بسيطرتها على العراق وسوريا ولبنان، وتسعى إلى تقاسم النفوذ معها في "شرق أوسط جديد". كانت السعودية تتابع هذه العلاقة الحساسة عن كثب، وتدرك خطورة محاولات تقاسم النفوذ الإيراني – الإسرائيلي على الأرض العربية، بما يشبه “سايكس بيكو” جديدة.
في ظل هذه التطورات، بدأت السعودية في رسم سياستها الإقليمية بعيدًا عن الاعتماد المفرط على الولايات المتحدة، خاصة بعد امتناع واشنطن عن دعم تحرير الحُديدة في 2018، واستبداله باتفاق ستوكهولم الذي لم يحقق شيئًا يُذكر، بالإضافة إلى الهجوم على بقيق عام 2019، الذي أدى إلى توقف نصف إنتاج المملكة من النفط، قبل أن تنجح في استعادة إنتاجها في وقت قياسي.
أدركت السعودية أن الاعتماد على واشنطن لم يعد كافيا، رغم التزام أميركا التاريخي بحماية منابع النفط. اكتفى الرئيس دونالد ترامب بالانسحاب الأحادي من الاتفاق النووي مع إيران عام 2018 إرضاءً للسعودية، وفرض عليها عقوبات مشددة. وأعلنت المملكة أنها، في حال امتلاك إيران قنبلة نووية، ستعمل على امتلاك واحدة فورًا، وهو ما أربك إسرائيل والغرب، وأجبرهم على التحرّك الجاد لمواجهة التهديد الإيراني النووي. إذ تخوّفت إسرائيل من امتلاك طهران السلاح النووي، لأنه قد يدفع دولًا مثل السعودية وتركيا ومصر إلى اللحاق بها، ما يفتح الباب أمام سباق تسلح نووي غير مسبوق في المنطقة.
لم تكتفِ السعودية بإطلاق التهديدات، بل سعت إلى تهدئة محسوبة مع إيران. وكانت طهران بدورها حريصة على هذه التهدئة، لما تملكه الرياض من قدرة على التأثير في واشنطن في ما يخص تخفيف العقوبات. وبرز دور الصين كضامن موثوق لهذا المسار الجديد بين الطرفين.
شكّل دخول بكين إلى مسرح الوساطة في المنطقة تطورًا أربك الولايات المتحدة وإسرائيل، إذ فتح الباب لتقليص الهيمنة الأميركية، بما يخدم رؤية الصين وروسيا نحو عالم متعدد الأقطاب. لكن أحداث "طوفان الأقصى" قلبت الموازين من جديد، ومنحت إسرائيل والغرب ذريعة لشن هجوم شامل على محور إيران، وعلى رأسه حزب الله، مع السعي لإضعاف حماس وتصفية النفوذ الإيراني في سوريا.
في ظل العقوبات الخانقة، وتورّط روسيا في مستنقع أوكرانيا، بدا أن إيران فقدت الكثير من أوراقها. وقد استُهدفت قواعد عسكرية روسية في أقصى شرق البلاد في هجمات لم يسبق لها مثيل منذ اندلاع الحرب. امتصّ ترامب غضب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين عندما سخر من الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي علنًا أثناء زيارته إلى البيت الأبيض، كما توصل إلى اتفاق تجاري جديد مع الصين.
باتت إيران بلا أنياب فعلية بعد تآكل أذرعها، خاصة حزب الله، رأس الحربة. ولأول مرة منذ أربعة عقود، تبدو طهران منهكة، عاجزة عن استعراض القوة كما في السابق. فشلت المفاوضات، وانتهت المهلة التي منحها ترامب (60 يومًا)، ليبدأ فصل جديد في الصراع: غارات مفاجئة إسرائيلية، تجهز الأرض لضربات أميركية مركزة استهدفت المفاعلات النووية الثلاثة في فوردو ونطنز وأصفهان، بمشاركة أكثر من 125 طائرة بينها قاذفات B-2 الشبحية، ضمن عملية معقّدة سميت "مطرقة منتصف الليل".
اعتبر ترامب أن الضربة مثلت "نجاحًا عسكريًا مذهلًا"، قائلًا "لا جيش في العالم قادر على تنفيذ ما قمنا به الليلة." وقد فهمت الصين وروسيا الرسالة جيدًا: الهيمنة الأميركية لا تزال قائمة، ولم يحن بعد وقت عالم متعدد الأقطاب.
وفيما بدا ردًا إيرانيًا، استهدفت طهران قاعدة العديد في قطر مساء 23 يونيو، لكن البيت الأبيض أعلن احتواء الهجوم. وأكدت طهران أن الاستهداف لم يكن موجّهًا ضد قطر، بل ضد قاعدة أميركية. أدانت السعودية ودول مجلس التعاون الخليجي الهجوم، وأشارت إلى اختراق السيادة الإقليمية، فيما التزمت روسيا والصين الصمت.
وبعد قصف المفاعلات، وجّه ترامب تهديدًا مباشرًا للنظام الإيراني، محذرًا من أن العجز عن جعل إيران "عظيمة مجددًا" قد يستوجب تغييره. وقال نائبه جي دي فانس إن "الولايات المتحدة ليست في حالة حرب مع إيران، لكنها تسعى إلى السلام عبر القوة."
في خضم هذه التطورات، تبقى السعودية لاعبًا إقليميًا مهيمنًا، لا تهدد أحدًا، لكنها تدعو الجميع، بما في ذلك إسرائيل، للمشاركة في بناء شرق أوسط جديد، قائم على السلام بعد إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة.