باب المندب، ميناء حيفا وورطة الصين
الولايات المتحدة لم تتفاجأ بسد باب المندب لأنها تعي تماما أنه احتمال وارد منذ سيطرة الحوثي على شمال غرب اليمن، وبالتالي فالفرضية الأكثر ترجيحًا هي التربص بالذريعة اللازمة والكافية لعسكرة البحر الأحمر، مثل ذريعة إحباط أعمال تخريبية من شأنها شل حركة الملاحة المدنية والإضرار بسيرورة التجارية العالمية، وما إلى ذلك من تأثير تضخمي على أسعار السلع والخدمات في جميع أنحاء العالم. وما يعزز صحة هذه الفرضية هو أن إدارة بايدن، والتي تواجه منذ بداية ولايتها مطلبًا اجتماعيًا يتعلق أساسا بالحفاظ على القدرة الشرائية، هي اليوم قادرة على إضفاء الشرعية على التدخل العسكري ضد الحوثيين، متى كانت السيطرة على البحر الأحمر تساعد في السيطرة على التضخم. فلا المنتظم الدولي ولا الناخب الأميركي البسيط ينكر التأثير التضخمي لسد باب المندب، ذلك أن كل سفينة يضطرها الحوثيون الى تغيير مسارها تجنبا للمرور عبر البحر الأحمر، فهي سفينة تحمل بضاعة تزيد كلفة نقلها، فضلا عن ارتفاع كلفة توريدها واستيرادها. وبالنظر لحجم حركة الملاحة البحرية التي تمر عبر مضيق باب المندب، فالحواجز "الباليستية" التي فرضها الحوثيون على التجارة الدولية واضطراب سلسلة الإمداد الذي أعقب ذلك قد يفضيان لصدمة عرض واسعة النطاق، فيما يشبه موجة التضخم العالمي الذي خلفتها أزمة كورونا.
نحن إذن أمام سيناريو يوفر الشرط الضروري والكافي لتكثيف الحضور الأميركي في البحر الأحمر، بل ولتحويل المنطقة إلى فضاء اشتباك مباشر وغير مباشر مع الحوثي ومن معه. والواقع أن ما تقوم به الولايات المتحدة، بمساعدة بريطانية فيما يشبه مطاردة لقراصنة، لن يعجل باستئناف حركة الملاحة التجارية في البحر الأحمر، لأنه كرس اللايقينية لدى كبريات شركات النقل التي قررت تمديد تعليق المرور عبر باب المندب، خصوصا وأن شركات التأمين استحثتها على ذلك وأن البنوك متحفظة عن تمويل عمليات العبور قبالة سواحل اليمن. وبغض النظر عن مدة ونتيجة التدخل العسكري في البحر الأحمر، فمن غير المرجح إعادة سلاسل التوريد عبر مناطق ذات مخاطر أمنية عالية، لأن الحوثيين باقون وسيبقون بعد رحيل السفن الحربية، إلا إذا التزمت هاته الأخيرة بمرافقةٍ مكلفةٍ ولاعقلانيةٍ لكلِّ سفينةٍ تجاريةٍ تمرُّ قبالةَ الساحل اليمني.
باب المندب أُغلِقَ إذن نهائياً، على الأقل على المدى المتوسط، لتفتح إسرائيل بابا بديلا يربط ميناء حيفا بميناء دبي، من خلال طريق بري يمر عبر السعودية، وهو مشروع يخطط له منذ عام 2021، تم للتو تفعيله وتمجيد مزاياه، من حيث توفير الوقت وتخفيض التكلفة، ما يجعله طريقاً التفافياً قد يتحول إلى طريق سريع.
ولأن "طريق إسرائيل الجديد" هذا يشكل تهديدا لـ"طريق الحرير الجديد"، وهو شبكة نقل تمرُّ عبر قناة السويس بتمويل من الصين، فقد سارعت الأخيرة إلى الرد بالمناشدة رسميا، خلال المؤتمر الصحفي الذي عقده وزير الخارجية الصيني يوم 14 يناير الجاري خلال زيارة لنظيره المصري، من أجل وضع حد فوري لأعمال العنف في غزة، في سابقة من نوعها منذ 7 أكتوبر 2023. يبدو هذا الموقف متماهيا مع ما يهتف به الحوثيون حول فتح باب المندب مقابل وقف إطلاق النار في غزة، لكنه وقبل كل شيء موقف يناسب مصالح الصين التي تقوضها سيطرة أضحت مشروعة للولايات المتحدة على البحر الأحمر.
زلة الصين أنها لم تر الولايات المتحدة قادمة وورطتها الآن أن عليها أن تختار بين طريق الحرير الذي غدا أمنه مسؤولية واشنطن، وبين مسار بديل تعرضه إسرائيل تحت رعاية أميركية لا مفر منها. وربما تجد الصين خلاصها في موقف أقل رمادية حيال فلسطين.