باتريك موديانو .. فتنة الذاكرة

ما يحددُ حركة السرد في رواية الكاتب الفرنسي هو الرغبة في البحث عن شخصيات ما تركت إلا أثراً باهتاً وعاشت في ظروف غامضة.
ما يراهنُ عليه موديانو هو الإفتراضات البديلة للأحداث وأثر الشخصيات لإضفاء مزيد من التشويق والإثارة إلى بنية النص
المحتويات الخبرية تعتبرُ وسيطاً بين الواقع والتخييل وتوقع السيناريوهات

إذا كانت الحياةُ برأي غابريل غارسيا ماركيز هى ما يتذكرهُ المرءُ وليس ما يعيشهُ فإنَّ الروائي الفرنسي باتريك موديانو تطيبُ له الإقامةُ في الذاكرة وما يحددُ حركة السرد في روايته هو الرغبة في البحث عن شخصيات ما تركت إلا أثراً باهتاً وعاشت في ظروف غامضة ومن المعلوم فإنَّ أدوات موديانو في رحلته هي الصورة وقصاصات الجرائد والمدونات ودليل الهواتف والمُستمسكات وبذلك قد أسس عالماً مطبوعاً بالخصوصية في الأسلوب بحيثُ إنَّ نصوصه مسكونُ بظلال أحداث وشخصيات يستعيدها موديانو روائياً هذا ويأتي كل ذلك ممتزجاً بذكرياته الشخصية ومشاهداته اليومية في جغرافيا مدينة باريس ومقاهيها ومسارحها. 
وأشار الكاتب في خطابه أمام الأكاديمية السويدية إلى ارتباطه الحميمي بـ "باريس" لاسيما في زمن الإحتلال النازي للمدينة التي تسكنهُ باستمرار، وضوؤها المحجوب والخافت يسبحُ في كتبه على حد قوله. 
وما يراهنُ عليه موديانو هو الإفتراضات البديلة للأحداث وأثر الشخصيات لإضفاء مزيد من التشويق والإثارة إلى بنية النص، أكثر من ذلك فإن المكان يكتسبُ أهمية كبيرة في أدب موديانو لدرجة يتحول إلى عامل أساسي لفعل التذكر إذ يتحرك ما تراكم في الذاكرة من الصور والتواريخ بتأثير التواصل القائم بين الشخصية والأمكنة.
العلاقة الجدلية
وهذه المُعادلة المسبوكة بنكهة موديانويية بين مكونين هي بمثابة نواةٍ في تشكيلة أعمال مؤلف" تفتيش ليلي" إذ ما أنْ يسلك الراوي في "أزاهير الخراب" شارع "آبيه –دو - لبيه" ويجد نفسه وسط المباني حتى ينهال عليه سيل الذكريات والوقائع. ويتأمل معالم المكان إلى أن يقعَ نظره على باب فندق سد بالحجارة ومايؤشرُ إلى هوية المبنى هو اللافتة المكتوبة عليها "فندق المُستقبل" ومن ثُمَّ لايتأخر الراوي في الكشف عن علاقته مع هذا المكان بعدما تخرج من معهد التعليم العالي حيث قد أقام بإحدى غرفه وأمضى سهراته بين جدرانها ويسترسلُ الراوي "وهو الأنا الأخرى للذات الكاتية" في الحديث عن ذكريات تلك المرحلة مشيراً إلى اختبائه مع جاكلين حتى لا يلتقي بها الماركيز. 
يُذكر أنَّ الأسماء تتواردُ في مستهل روايات موديانو ويفهمُ ما يربطُ بين هؤلاء مع إستمرار السرد، وما يزخمُ الحزمة السردية في "أزاهير الخراب" هو خبر مقتل زوجين في سنة 1933 حيثُ قد أبلى صاحب "مجهولات" بلاء حسنا في صياغة الإفتراضات حول ملابسات الحادثة كما أنَّ عدداً من الشخصيات التي تنضمُ إلى سياق بيئة الرواية تُعمق لعبة الإحتمالات إلى أن يصبحُ المتلقي مشاركاً بدوره في عملية الإفتراض.
زدْ على ما سبق فإنَّ نصوص موديانو موشحة ُبغموض شفيف. فهو عندما يتناولُ تجربة الكتابة يراها في صورة غامضة. إذ يشبه العملية بقيادة السيارة في ليلة الشتاء برؤية منعدمة فوق قشرة جليدية. فعلاً مناخُ رواياته مُغلفُ بسديميات غامضة وتكونُ تساؤلاتُ سابحة في جسد النص حول هوية المكان وما بدل فيه سبباً إضافياً لتصاعد نسبة الغموض، وهذا ما تراهُ في ارتياب الراوي مما يُصادفه في شارع "أولم" إذ يتساءَلُ هو في باريس فعلاً. 
وبعد أن تجول عدسة السردِ في فضاء المكان يتمُ الإنصراف إلى ماضٍ سحيق مع التلميح إلى وجود مبنى جديد محل ما كان قائماً في السابق ومن ثُمَّ ينفتحُ قوس السرد على حكايةٍ تتلاحقُ وحدات الرواية في سياقها. 

تقنية الحلم وتداعي الصور حاضرة في نص موديانو الذي يعتقد بأننا "سنجدُ أولئك الذين نبحثُ عنهم إذا كانوا أحياءً في مكان ما"

ومن المعلومِ أنَّ التفاعل مع الصيغ الخبرية والمواد الصحافية يستهوي موديانو فإنَّ رواية دورا برودية تدورُ بأكملها حول خبر هروب الفتاة "دورا" من داخلية مدرسة قلب مريم المُقَدس في 1941 ويُبنى باتريك موديانو على هذه المادة المنشورة في جريدة "باريس سوار" هيكلية عمله.
كذلك تتواردُ الإشارة إلى مقتل زوجين والإفادات حول الحادث بصيغة خبرية في رواية "أزاهير الخراب" ومن الملاحظ أنَّ الإحالة غالباً ما يكون للصحف المسائية. إذاً تعتبرُ المحتويات الخبرية وسيطاً بين الواقع والتخييل وتوقع السيناريوهات. وبينما يطوف الراوي في شارع "فوسيه سان جاك" يتخيل مرور الزوجين الشابين أوريان وجيزيل بالمكان نفسه في تلك الليلة قبل مصرعهما منتحرين. وفي ذات الإطار يدعمُ فرضيته بما نشر في الصحف بأنَّ الإثنين قد ارتادا ملهىً ليلياً في "مونبارناس" مُتسائلاً هل أفرطا في الشرب؟ أو كانت الرغبة دافعاً للخروج من النمط المُعتاد للحياة.
أطياف
رصد باتريك موديانو سردياته الروائية لمتابعة المجهولين المركونين في أقاصي النسيان وإستعادة صورة مغمورة للمدينة وذلك بالإعتماد على الطبعات القديمة للجرائد وأرقام الهواتف وبطاقات الهوية، وبهذا تتزاحم أطياف شخصيات كثيرة في مساحة أعماله الروائية إضافة إلى تقصي وقائع مقتل الزوجين وتتبع أخبارهما قبل أن تسمع إحدى الجارات أنينا من شقة السيد أوربات، فبالتالي تتذكر دوي إطلاق النار وتطرق الباب فإذا بجزيل الجريح تظهر متمتة "زوجي مات" تتواتر قصص أخرى في حلبة النص، وتنضمُ أسماء جديدة إلى خط السرد منها فيوليت التي شبهتها الصحف بزهرة السامة، وسليفيان التي يتوقع الراوي بأنها إحدى المرأتين اللتين إستدرجتا الزوجين إلى "بيرو"، وهنا ينعطفُ الراوي إلى ذكرياته الشخصية وإعتقال أبيه في 1943 في إحدى المستودعات التي حولت إلى معسكر إلى أن يطلق سراحه صديقه والسؤال الذي يشغلُه هل ذاك الشخص هو إدي بانيون العضو بعصابة (شارع لوريستون) ويرتادُ شقة سليفيان هذا الإفتراض هو دافع للملمة المعلومات عن بانيون. 
هكذا تتناوب على السرد حادثة انتحار الزوجين والإستذكارات لصور الأمكنة التي تتوزع في روايات موديانو بين المغلقة والمفتوحة هذا فضلاً عن التلميحات الوامضة لشخصيات مغمورة وما تستدعيه الذاكرة من الأخبار المؤثرة مثل إنتحار مارلين مونرو الذي صادفه منشوراً في صدارة الصحف. والأهم من بين ما يغطيه شريط السرد هو باشيكو الذي ينتحل شخصية أخرى إذ يتعرفُ عليه الراوي في المدينة الجامعية، ومن ثمَّ يتذكر بأنه سبق أن رأى هذا الشخص لابساً معطفاً بنياً وما يمر كثير من الوقت حتى يصادفه من جديد بحلة وشكل مُختلفين وعندما يبلي الراوي وجاكلين دعوة باشيكو ويتبادل الاثنان أطراف الحديث يدعي المُضيف بأنَّ نسب أمه يعود إلى الجنرال فيكتور، وفي صباه كان يسمي نفسه فليب دوبيلون يحتفظ هذا الشخص بغموضه وظل مكان إقامته مجهولاً والحال هذه تبدأُ تحريات الراوي في السجلات والصحف، ولا تنفكُ ألغاز باشيكو  قبل فتح حقيبته التي تركها لدى الراوي حيث يكتشف الأخير بأنَّ باشيكو ليس إلا اسماً منتحلاً للمدعو شارل لومبار الذي كان يعملُ نادلاً في المقهى. 
ومن هنا تكرُ سبحة الإحتمالات بشأن شخصية باشيكو الحقيقي الذي كان على اتصال بالعدو وتردد على ملاجيء جيش الخلاص واعتقل في "باشو" وذلك يكون بالتزامن مع شخصية الأب ومواعيده مع الفتاة ذات الشعر الكستنائي ومن ثُمَّ تنتهي الفقرة بمشهد ظهور شابة جميلة بشارع "جوردان" إلى ذلك يستعيدُ الراوي ذكريات هروبه من المدرسة ومصاحبته لمن يسميها بالدانماركية إذ وعدته الأخيرة بمرافقته لمشاهدة "سليمان ولكة سبأ"، عليه فإنَّ صورة جاكلين تلوحُ أيضاً في دهليز الذاكرة وآخر لقاء قد جمعها بالراوي قد مرت عليه خمس وعشرون سنةً وهكذا تتسرب سيرة الأب في تضاعيف النص، ينضاف إلى كل ما سلف إفراد مساحة سردية للحديث عن الشخصيات الثلاث وهم يرتادون مطعماً غرب باريس برفقتهم فتاة وما هي الأخيرة جاكلين التي لفتت نظر الراوي زيادة على ذلك تتوالى الإشارة إلى الفنانين ونجوم الرياضة في رواية "أزاهير الخراب" التي يذكرك العنوان بـ "أزاهير الشر" لبودلير. 
وما يجبُ الإشارة إليه تقنية الحلم وتداعي الصور حاضرة في نص موديانو الذي يعتقد بأننا "سنجدُ أولئك الذين نبحثُ عنهم إذا كانوا أحياءً في مكان ما".