باحثة مصرية تؤكد أن التأويل مطلب ملح للحياة المعاصرة

فاطمة  إسماعيل ترى أن الإنسان وهب القدرة على التأويل منذ أن علم الله آدم الأسماء كلها، في مقابل عجز الملائكة عن معرفة الأسماء ومعناها وما تؤول إليه.
الغزالي أثبت فيما يتعلق بأمور الآخرة أن ما لا برهان على استحالته لا ينبغي إنكاره
ظاهرة "التأويل" من أهم وأخطر الظواهر الإنسانية
خطورة التأويل تأتي من حيث كونه موضوعا للتعدد والاختلاف؛ ومن ثم الخلاف

أكدت د. فاطمة إسماعيل إن ظاهرة "التأويل" من أهم وأخطر الظواهر الإنسانية؛ حيث رأت في كتابها "فسلفة التأويل" أن ظاهرة التأويل ارتبطت بالإنسان كائنا من كان؛ وقالت "لو نظرنا إلى التأويل على أنه محاولات الإنسان لاستكناه الغامض من اللغة، وإرادة الكشف عن معاني الكلمات، بل معنى الوجود ككل، قصد الفهم، ولو نظرنا إلى اجتهادات العقل البشري عبر عصوره بحثا عن الحقيقة وتوخيا للفهم؛ سنجد أن الإنسان قد وهب القدرة على التأويل منذ أن علم الله آدم الأسماء كلها، في مقابل عجز الملائكة عن معرفة الأسماء ومعناها وما تؤول إليه. فلما أنبأهم آدم كان ذلك إيذانا بالقدرة على التأويل، فأصبح التأويل قرينا للإنسان من حيث هو كائن عاقل، ناطق، رامز، مكلف، أخلاقي، متدين، مؤول.. إلى آخر التعليقات التي وضعها المفكرون والفلاسفة للإنسان ومحاولاته عبر العصور المختلفة للكشف عما استغلق عليه من معاني الأشياء والوجود بحثا عن الحقيقة وسعيا وراءها، سواء كانت الحقيقة: منطوقة ومسموعة، أو مقروءة مسطورة في صفحات الكتب المنزلة وغير المنزلة، أو المشاهدة في الآفاق، أو المحسوسة في الأنفس. فكل محاولات العقل وتجلياته لفهم الحقائق لا تخرج عن كونها "تفسيرا" أو "تأويلا". 
ورأت إسماعيل أن كل بحث قام به فيلسوف ما، أو مفكر ما، ما هو إلا محاولة لـ "فهم" حقائق الوجود، والكون وخالقه، والإنسان وإمكانياته، وعلاقاته... إلخ، وكلها محاولات تدخل تحت التفسير أو التأويل بوجه عام، إذا ما قصد بذلك الفهم، وفهم الفهم. لكن ظاهرة التفسير والتأويل ارتبطت ـ أكثر شيئا ـ بالنشأة الدينية حتى وسمت بأنها "ظاهرة دينية" ارتبطت بمحاولات العقل لفهم النصوص الدينية، وبالفكر الديني على امتداد الأديان المنزلة جميعها: يهودية ومسيحية وإسلامية. وفي علم التفسير الإسلامي يقول العلامة الزركشي "التفسير علم يعرف به فهم كتاب الله المنزل على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، وبيان معانيه، واستخراج أحكامه وحكمه. واستمداد ذلك من علم اللغة والنحو والتصريف، وعلم البيان وأصول الفقة والقراءات". ولكنها عادت مرة أخرى في عصورنا الحديثة لتمتد إلى خارج نطاق الدين؛ ليحلق التأويل في آفاق أوسع معلنا عن ميلاد الهرمنيوطيقا في الفكر الغربي الحديث، وليؤكد أن ظاهرة التأويل ترتبط بالإنسان كائنا من كان ما دام يسعى للفهم وللبحث عن المعنى والحقيقة في أي مجال.

الظاهر هو حق الجمهور، والمؤول هو الباطن الذي ينبغي أن يكون جامعا لحقوق التأويل الثلاثة: حق العقل، وحق اللغة، وحق الشرع

وأشارت إلى أن التأويل باعتباره تفعيلا للعقل في فهم النصوص الدينية أدى إلى قيام علوم تمحورت حول الدين، أو انبثقت منه كنتيجة طبيعية لآلية التأويل ومحاولات العقل لفهم النصوص، وأهم هذه العلوم الإسلامية: علوم القرآن وأهمها علوم التفسير، وكذلك الفقة، وأصوله، وأصول العقيدة، والفلسفة، والتصوف.. إلخ. جميعها علوم يدخل فيها الـتأويل باعتباره منهجا للمعرفة، يفتح آفاقا واسعه من العلاقة الجدلية بين النص الديني والفهم الإنساني المتجدد عبر الزمان، من هنا خاضت جميع الفرق والمذاهب والاتجاهات الفكرية على تنوعها في مسالة التأويل باعتباره ضرورة معرفية.
وقالت إسماعيل إن خطورة التأويل تأتي من حيث كونه موضوعا للتعدد والاختلاف؛ ومن ثم الخلاف، وعلى الأخص إذا ما تعلق الأمر بأصول العقيدة الدينية، وما يلزم عن بعض التأويلات من أثر سلبي على الواقع الاجتماعي الذي يعيشه الناس في عصر معين، مما يؤكد أن هناك أنواعا من التأويلات، منها الصحيح المقبول، ومنها الفاسد غير المقبول عقلا وشرعا، كما في بعض تأويلات الشيعة. وإذا انتقلنا إلى الفلسفات الغربية الحديثة والمعاصرة نجد أنها اهتمت اهتماما كبيرا بتأويل النصوص، سواء الدينية أوالفلسفية.. إلخ، حتى أصبحت الهرمنيوطيقا نقطة مركزية في كل مجالات العلوم الإنسانية عامة. كما امتد التأويل ليشمل كل ما يقبل الفهم والتعقيل: كالرموز والأساطير وظواهر الفن.. إلخ. 
وسعت إساعيل في الكتاب تعريف القارئ على بعض أصول التفسير، ومتطلباته وشروطه، ووظيفته، والكشف عن أهميته بهدف تحفيز عقله على ممارسته، وبخاصة على نصوص التراث، وما أكثرها. وأضافت "أتطلع من خلال الخبرات التأويلية التي عالجتها إلى معرفة كيف نتعامل مع تراثنا العربي الإسلامي تعاملا تأويليا، حيا متجددا لا نهائيا، مشمولا بكل الأبعاد التي أفدنا منها، والتي تستجد فيما بعد، لتشكيل وعي تأويلي قوامه الحس التاريخي والنقدي في تناول موضوعات التراث أيا كان مجالها، وتشكيل عقلانية متميزة في فحص أصوله واكتناه تركيبته؛ وهو ما يسميه جادامر "الوظيفة الفعلية للتاريخ"، أي تطبيق الدلالات التي تكشف عنها حقائق التاريخ والتراث على اللحظة الراهنة، فالوعي التأويلي يعكس ظهور التراث، والممارسة التأويلية تعكس انصهار آفاق الماضي والحاضر في حقيقة الفهم، فهو يضمن إنارة حاضرنا الراهن وحالتنا الواقعية، تأكيدا لفاعلية الوظيفة التاريخية التي تردم كل مسافة وهمية بين الماضي والحاضر، لتجعل التاريخ يعيش فينا، على حد قول جادامر".
وأشارت إلى أن التأويل أصبح مطلبا ملحا في حياتنا الفكرية المعاصرة التي يسودها الاغتراب بسبب تعقد وتشذر المعرفة فيها، والتباعد بين ثقافة الماضي والحاضر، والصراع بين ثقافات وعقائد الشعوب، رغم كل ما يقال عن فوائد العولمة وذرائعها التكنولوجية التي ستعمل على تقارب الثقافات وما إلى ذلك من وعود زائفة أو مستترة تحت غطاء أيديولوجي سياسي، لذلك ندعو إلى إعادة تشكيل الوعي التأويلي من جديد ليتناسب مع العصر، ومع تاريخية الإنسان، فتكون دعوة لتحقيق وجودنا نحن ووجود تراثنا في اللحظة الراهنة هنا والآن، كتجربة حية ومعيشة تلتحم فيها وتنصهر آفاق التراث وآفاق الحاضر. ولا شك أن أدوات التأويل متغيرة، ومتجددة، ومتعددة، ومن ثم فإن من يضطلع بمهمة التفسير الآن، لا بد أن يكون متسلحا بمعرفة واسعة في مجال العلوم الإنسانية عبر مسار نموها وتغيرها وتطورها وصولا إلى اللحظة الراهنة.
وأوضحت إسماعيل أن علماء التفسير ميزوا بين التفسير والتأويل، فكل تأويل هو نوع من التفسير؛ لكن ليس بالضرورة أن كل تفسير هو تأويل، وليس بالضرورة أن تكون كل التأويلات منسجمة مع العقل أو الشرع، كبعض تأويلات الشيعة، وغيرهم من الفرق التي حادت عن الصواب.
وأضافت أنه "إذا كانت الهرمنيوطيقا، في الفكر الغربي الحديث والمعاصر، هي مبحث يهدف إلى دراسة عملية الفهم، وبخاصة ما يتعلق بتفسير النصوص وتأويلها؛ فإن العرب عرفوا ألوانا من التفسيرات والتأويلات في مجالات البحث الأخرى، وشغل "الفهم" حجر الأساس في عمليتي التفسير والتأويل، وكذلك يحتل هذا المفهوم موقعا مركزيا في الهرمنيوطيقا الغربية".

فلسفة التأويل
دوافع التأويل

ولفتت إسماعيل: لقد أدرك علماء التفسير عدة مسائل تتعلق بالتفسير والتأويل، أهمها: نشاط التساؤل بغية الفهم، وإحكام قواعد التلاوة في القراءة الجهرية للنصوص الدينية، وهي ذاتها نوع من إيضاح للمعاني، أيضا مسألة الأهتمام بأسباب النزول، وهو تأكيد لوقائعية الأحداث والمواقف، وإمكانية استمرار حدوثها، دوام وقوعها. وأكدوا فكرة جوهرية وهي "لا نهائية" معاني النص الديني، وبالتالي انفتاحه، وقبوله العديد من التفسيرات والتأويلات عبر مسار تاريخ الإنسان ونشاطه التفسيري. لقد أدركوا أن النص حمال ذو وجوه عديدة، يحمل العديد من المعاني، ويتحمل العديد من التفسيرات التي تتواءم مع اللغة والواقع، وتتواءم مع كونه نصا عالميا يخاطب الناس جميعا في كل عصر ومصر، مما يعني جدا الثابت "النص" والتغير "الفهم". 
إن شمولية النص القرآني وعموميته وعالميته، وثباته كنص مكتوب ومقروء، ومسموع يخاطب الإنسان كائنا من كان، في كل عصر ومكان، كل ذلك يؤكد انفتاح النص على إمكانات لا نهاية لها من التفسيرات والتأويلات.
وأكدت أن مجموع التفسيرات التي تشكلت حول النص عبر ميلاده وعبر مسار تاريخه حتى وقتنا الراهن، وعبر تعدديتها بهدف تحقيق الفهم، ما هي إلا تأكيد لتلاقي الأفق التاريخي للنص مع أفق المفسر أو المؤول؛ هذا التلاقي سيستمر حتى يرث الله الأرض ومن عليها. وإذا كان النص الديني نتاج الوحى، فإن الفهم واستنباط الأحكام والاجتهاد في فهمه وتفسير نصوصه وتأويلها من عمل البشر، والبشر مختلفون عقليا وعلميا وثقافيا، كما أن الحياة البشرية في تغير دائم، فهذا ينعكس على عملية التفسير والتأويل التي ينبغي أن تساير السياق المتغير للحياة، من هنا كان جدل الثابت الباقي، والمتغير المتجدد، التعدد. 
وكشفت إسماعيل أن معنى التأويل جاء عند كل من الغزالي وابن رشد جامعا للمجاز اللغوي والعقلي في آن واحد، كما اتفق كل منهما على ألا يتم صرف اللفظ إلا بقيام البرهان على إستحالة الظاهر.
وقالت "إذا كان الغزالي قد أثبت فيما يتعلق بأمور الآخرة أن ما لا برهان على استحالته لا ينبغي إنكاره، لأن ما لم يقض العقل باستحالته فهو "ممكن". كذلك يؤيده ابن رشد في ذلك ويروي أن العقل لا يدرك في هذه الأمور أكثر من "الإمكان" في الإدراك المشترك للجميع. كما اتفق كل منهما على أهمية ضبط علاقة المحكم والمتشابه، الباطن والظاهر، أن الظاهر حق الجمهور، والمؤول هو الباطن الذي ينبغي أن يكون جامعا لحقوق التأويل الثلاثة: حق العقل، وحق اللغة، وحق الشرع. وكلاهما قدم العقل، وجعله أصلا في الشرع، وكلاهما اهتم بالمعنى قبل اللفظ مع تأكيد الدلالة اللغوية. وكلاهما أكد منه إظهار التأويلات وكشفها على العامة، فقال الغزالي بـ "المضنون به على غير أهله"، وهو أيضا ما ذهب إليه ابن رشد.
يذكر أن إسماعيل قسمت كتابها الصادر عن الهيئة العامة لقصور الثقافة لبابين الأول: التفسير والتأويل في الفكر الإسلامي، تحديدا في مجال واحد فقط هو مجال الفكر الديني المرتبط بتفسير وتأويل النص الديني. وفي الفصل الأول: علم التفسير في الفكر الإسلامي عالجت: نشأة علم التفسير، ومراحله الثلاث؛ التفسير في عهد الصحابة، وفي عهد التابعين، وفي عصور التدوين. وكذلك أشارت إلى إتجاهات علم التفسير وأقسامه، والفرق بين التفسير والتأويل. أما الفصل الثاني: قانون التأويل بين الغزالي وابن رشد وعالجت فيه: معنى التأويل عند كل منهما، وكذلك دوافع التأويل، ومعياره، وشروطه وضوابطه.
الباب الثاني: الهرمنيوطيقا في الفكر الغربي، قسمته إلى أربعة فصول؛ عالجت في الأول: الجذور اليونانية للهرمنيوطيقا، والتعريفات الحديثة للهرمنيوطيقا. وفي الثاني: الهرمنيوطيقا في الفكر الغربي الحديث عند شليرماخر، ودلتاى، وفي الثالث الهرمنيوطيقا المعاصرة تناولت هرمنيوطيقا هيدجر. وفي الرابع تناولت هرمنيوطيقا جادامر.