باحثون يحللون رؤى وأفكار ليوتار عن "ما بعد الحداثة"

المفكر الفرنسي يرى أن النظر إلى التاريخ باعتباره تقدما مستمرا نحو الحرية وسعيا نحو التقدم لم يعد يلقى قبولا الآن.
مشروع ليوتار تعبير عن أزمة الحداثة أكثر مما هو تجاوز لها
ما بعد الحداثة تمثل حركة فكرية تقوم على رفض الأسس التي ترتكز عليها الحضارة الغربية الحديثة

يرى المفكر الفرنسي جان فرنسوا ليوتار أن النظر إلى التاريخ باعتباره تقدما مستمرا نحو الحرية وسعيا نحو التقدم لم يعد يلقى قبولا الآن، فقد انتهت الفلسفات التي تصف حركة التاريخ على أنها تسير نحو سيادة طبقة من الطبقات سواء كانت البورجوازية أو البروليتاريا أو إلى سيادة جنس من الأجناس أو قومية من القوميات. فقد حكم ليوتار على كل النظريات العامة في التاريخ بأنها أيديولوجيات، إذ هي مجرد صورة زائفة لا تقبلها حقيقة واقعة، وما تسبغه هذه النظريات على التاريخ من اتصال واستمرار في خط واحد هو مجرد وهم، وهي لا تقوم بذلك إلا لتبرير الوضع القائم وإضفاء المشروعية عليه.
إنها أكثر من قضية فكرية وفلسفية وتاريخية يثيرها ليوتار ويناقشها نخبة من الباحثين في هذا الكتاب "ليوتار والوضع ما بعد الحداثي" والذي أشرف عليه وحرره د. أحمد عبدالحليم عطية، وشارك فيه د. أحمد أبوزيد، د. حسن حنفي، د. عبدالوهاب علوب، د. أشرف منصور، د. محمود متولي، د. منى طلبة، وموفق محادين.
رأت  د. منى طلبة في دراستها "قراءة لمفهوم الحكاية عند ليوتار وريكور كمنظورين متقابلين لما بعد الحداثة"، أن مشروع ليوتار تعبير عن أزمة الحداثة أكثر مما هو تجاوز لها. فهو منذ البداية يحاول الإيحاء بأنه يقترح أسلوبا جديدأ في التفكير يحل محل الأسلوب الحكائي البدائي، والميتا ـ حكائي الحداثي والذي تجاوزه الواقع. ولكنه في حقيقة الأمر غايته نقد الأفكار والوعود التي جاءت بها الحداثة ونزع الأهمية عنها. وإظهار الإنسان المتعلق بها مظهر الحالم المسكين الذي يدير ظهره للواقع. 
وهذا التناول من جانب ليوتار هو في أحسن األحوال نوع من المقاومة السلبية للخروج بالإنسان من حالة الإحباط التي تنتابه لفشله في تحقيق آماله، عن طريق نزع القيمة عن هذه الآمال.
 ومن جهة أخرى يدافع ريكور عن الأمر الواقع ويبرر الامتيازات التي تحظى بها الأقلية السياسية والاقتصادية والفكرية في مواجهة الملايين من العمال والعاطلين في المجتمعات الأوروبية، وكذلك الامتيازات التي تحظى بها الدول والشركات المهيمنة على مصائر شعوب العالم الثالث.
وأكدت أن محاولة ليوتار تسعى لسد الطريق على أي محاولة جادة لتغيير العالم، وإغراء الإنسان بأن يسعى لخلاصه الفردي ناشدأ الانضمام للنخبة، والتي بطبيعتها لن تشمل كل الراغبين، كما أنها أيضا محاولة لتخفيف العبء عن الدولة التي تقف مكتوفة الأيدي أمام التزايد المستمر في أعداد العاطلين، والذي يطرد اطرادا عكسيا مع النمو التكنولوجي. حيث يجعل من التدخل الفوقي للدولة لحل مشكلة من المشاكل ضربا من السلطة وملمحا من ملامح الحداثة، يدعو لترك الأفراد لمصائرهم والذين سيصفي مشاكلهم النزوع البراغماتي المابعد حدائي لكل فرد والحرب اللغوية للجميع ضد الجميع. والتفنن في استخدام المراوغة الكلامية كسلاح فعال ضد الخصم، وتفتيت الدول.
وقالت طلبة إن "ما بعد الحداثة ضد هدف موحد للتاريخ وهدفها ليس الإجماع ولكن العقد المؤقت. ولكن في إطار هوية جديدة جامعة للبلاد التكنولوجية الأكثر تطورا في مقابل البلاد المتخلفة الواجب تفريغها من عقولها ورؤوس أموالها لصالح التشغيل المستمر للآلة التكنولوجية المعلوماتية الرباحة، مع الإبقاء على شعوب هذه البلاد على حال من الطموح والعجز عن مناهزة هذه الهوية الجديدة بعد تشديد الضربات على حكاياتها الراوية لهويتها، وذلك لتظل هذه الشعوب زبائن مستمرة للمبتكر الغربي. 
وهذا يعني إن ما يجب الانتباه إليه بالنسبة لنا ليس التبني المعلوماتي التكنولوجي وإنما لآلية النظرة الجديدة، والتي تتمثل في وجوب الالتفات لمعطيات واقعنا نحن بما يكشف عن إمكانات تطوره، دون أدنى تخاذل أو تجاهل لضرورة إعادة قراءتنا لتراثنا وكذا للحاضر الغربي المنسي بفعل التكرار والتشدق والتعصب والمبالغة والخضوع.
وفي بحثه لفت د. أحمد أبوزيد إلى أولى إشارات ليوتار إلى مصطلح ومفهوم "ما بعد الحداثة"، قال "كان ليوتار يعمل في ذلك الحين أستاذًا بجامعة باريس الثامنة، والذي يعتبر رائدا لحركة ما بعد الحداثة فى فرنسا. وكان الحديث يدور حول الملامح الأساسية لتفكيره وآرائه فى الحياة والثقافة والمجتمع وارتياده لحركة ما بعد الحداثة، وإسهامه فى تلك الحركة، ومدى تقبل الفكر العالمي لها". 
وقد لاحظ ليوتار فى بداية الحديث أن العالم يمر بمرحلة تتميز بما أسماه "الانفجار الاتصالي عن بعد"، وأنه يشهد تفكك المذاهب والنظريات والاتجاهات الفكرية الكبرى فى المعرفة الأدبية والعلمية، ويعاني من غياب أو اختفاء أنساق المعتقدات التى توجه الإنسان فى تفكيره وقيمه وسلوكياته وعلاقاته بالآخرين، وأن هذه المظاهر كلها تعتبر أهم العناصر التي تميز فترة أو مرحلة أو حتى حالة "ما بعد الحداثة".
ورأى أبوزيد أن "ما بعد الحداثة" تمثل حركة فكرية تقوم على نقد، بل ورفض الأسس التي ترتكز عليها الحضارة الغربية الحديثة، كما ترفض المسلمات التى تقوم عليها هذه الحضارة، أو على الأقل ترى أن الزمن قد تجاوزها وتخطاها، ولذا يذهب الكثيرون من مفكري ما بعد الحداثة إلى اعتبارها حركة أعلى من الرأسمالية، التى تعتبر هي الطابع الأساسي المميز لتلك الحضارة، بل إن البعض يرون أن عصر الحداثة قد انتهى بالفعل، وأن ما بعد الحداثة تهيئ باعتبارها مفهوما نقديا للفكر السابق لقيام مجتمع جديد يرتكز على أسس جديدة تماما غير تلك التى عرفها المجتمع الغربي الحديث، ويبدو أن مفكري ما بعد الحداثة قد تأثروا فى ذلك بأفكار بعض الفلاسفة الألمان بالذات، مثل نيتشه وهايدغر اللذين كانا قد أثارا فكرة إمكان قيام أسس جديدة للفكر الإنساني الحديث والمعاصر".
وأكد أنه ليس من السهل فهم كتابات ليوتار، كما أنه ليس من السهل قبول بعض أفكاره، ولكنه كان يؤازر الدعوة إلى الاختلاف والتعدد في كل المجالات النظرية، ويحارب في غير هوادة النظريات والمناهج العامة الكلية أو الشمولية، ويؤكد التغاير بين أنواع الخطاب المختلفة، وأن لكل منها قواعده ومعاييره ومناهجه الخاصة، كما أن للأحكام النظرية والعلمية والجمالية استقلالها وقواعدها ومحاكاتها المتميزة، كما يرفض الأفكار المتعلقة بإمكان قيام نظرية كلية شاملة أو أساسية، أو وجود منهج أو مجموعة من المفاهيم تتمتع بسلطة فائقة في العصر الحديث، وكل ذلك يرجع إلى إسناده لقوة وفاعلية ما يسميه ليوتار أحيانا بالأساطير، وأحيانا أخرى بالحكايات والقصص العليا أو ما وراء الحكايات أو "الميتا – حكايات". 
وفي دراسة جون كين التي ترجمها محمد المحمدي، وفى محاولة لإبراز وتفكيك وتحديد العلاقة الحميمة الكامنة ولو توهميا، بين ما بعد الحداثة الفلسفية والديموقراطية الحديثة، ركز كين على كتاب ليوتار "حالة ما بعد الحداثة"، وقال "لا أريد أن أضع أهدافًا عن "تمثيلها التام" لحركة الحداثة ككل، تلك الحركة التي اتسمت بالتقلب والتغير العميق، وإثارتها لأنواع متباينة من الأسئلة والمتابعات تجعلها مشجعة وجديرة بالتطلع إليها، ليس فقط لأن "الحداثة" التي موضوعها المذهب النقدي، هي ذاتها متميزة بدرجة عالية "الفن المعماري لكاربوذيه، والفن التعبيري المجرد، والعلوم الوضعية الجديدة عند كارل بوبر من الواضح إنها ظواهر ليست متماثلة الشكل". لكن أيضأ وبتحديد أكثر، لأن ما بعد الحداثة الفلسفية والتي انجذبت إليها بعمق بعدة طرق، تتسم بكرهها الذي له ما يبرره لمحاولة تجميع العالم في وحدة واحدة، ذلك العالم الذي يبدو في الواقع كمركب لا متناه، ديناميكي واقع مرهون بعلم اللغة، ولهذا لا يمكن أبدًا تفسيره من كثرة المنظورات.
وقال إن ليوتار اهتم بمشكلة الشرعية بصفة خاصة، ويعني بها العملية التي تحاول بها كل حيلة أو لعبة لغوية "أيديولوجية" معينة أن تؤسس "حقيقتها" و"صوابها" وفعاليتها "إمكانيأ" ـ وعلى ذلك تحاول أن تعلي من شأنها فوق الحيل أو الألعاب اللغوية الأخرى المنافسة لها ـ من خلال الألفاظ التي نعنيها بكثير أو قليل من الوضوح بالنسبة للحامل لحيلة لغوية معينة والقواعد المتعلقة بمثل هذه الأمور تمائل الحاجة للروايات وللأنساق الداخلية، والتحقيق التجريبي والاتفاق الجماعي الذي يتم تحصيله من المناقشة وما إلى ذلك، وهذه القواعد لا تؤلف فحسب خطوطا إرشادية تتعلق بكيفية صياغة ألفاظ الدلالة ــ والتي فيها يكون تمييز الصادق/ الكاذب هو المعيار المركزي ـ بل أنها تنسب إلى أفكار عن "قواعد السمع" وقواعد القول وقواعد السلوك، القدرة على صياغة وفهم العبارات التقريرية والتقويمية: وعلى ذلك يمكن أن نتخاطب ونتفاعل مع الآخرين بطريقة مألوفة. 
إنها تواضع مقبول حول هذه القواعد البراغماتية، أو كما يقول ليوتار فهذا يجعل المشاركين في مجموعة لغوية معينة يتطابق كل منهم مع الآخر كمتحاورين، كما يسمح بتمييز لعبتهم اللغوية عن غيرها من اللغات، فالألعاب اللغوية التي تقع تحت إمكان القياس.
وفي دراسته "التوازي الإيتيقي الإستاطيقي في أخلاق العدالة عند ليوتار، انطلق د. محمود متولي من فرضية أساسية في رؤية ليوتار الأخلاقية القائمة على أخلاق العدالة، ألا وهي، الارتباط الجمالي الأخلاقي الذي يجد مشروعيته في مبدأ التسامي الكانطي، رغم الاختلافات التطبيقية بين المجالين الأخلاقي والجمالي كحقلين متباينين للحقيقة، وذلك لأهمية تحررهما من سلطة الخطاب المعرفي والقيمي، ومن أي نزعة إنسانية تؤطر ماهية الإنسان، وتحدده بوصفه فكرأ، أو تختزله في مجموعة من القيم المفضلة للذوات الفردية المتعينة. 
وقال متولي "إن ليوتار أفاد من المشروع النقدي لكانط بكتبه الثلاثة، وطور فيه بصورة تناسب طبيعة رؤيته الأخلاقية للعدالة القائمة على الاختلاف المطلق، فهو يسعى إلى تحرير فلسفة كانط، وخاصة نظريتيه في الإيتيقا والحكم الجمالي من التأويل الأنثروبولوجي، حتى يمكن وضع فكرة حقوق الإنسان موضع التساؤل من أجل إعادة تحديد شروط مشروعيتها الفلسفية، فقد عمل أولا على نزع مشروعية العلم حيث كان يعتقد بأن العلم هو المرجعية اليقينية لكل حقول المعرفة وهذا بالاعتماد على نقد العقل النظري الخالص، كما عمل كذلك على إضفاء المشروعية على توازي الحكم الأخلاقي بالجمالي بوصفهـما يتحددان في الغالب بواسطة الشعور بالجليل، وهذا بالاعتماد على نقد العقل العملي، ونقد ملكة الحكم".