باحث إسباني يتتبع تاريخ الغجر وثقافتهم

خابيّر آسينسيو غارثيا يقدم 79 حكاية من حكايات الغجر ويترجمها عبدالهادي سعدون وتصدر في مشروع كلمة للترجمة.
تميز الغجري يكمن في مسألة الخلق الغنائي والتميز في الصنعة الغنائية المتفردة
الحياة المشتركة للغجر منذ وصولهم إلى إسبانيا شكلت ما يشبه أوديسا
الشيفرات الأخلاقية الملاصقة للملحمية تتوافق مع القيم الغجرية

يزيح البروفيسور خابيّر آسينسيو غارثيا في مقدمته لكتابه "حكايات غجر إسبانيا الشعبية" الذي ترجمه القاص والشاعر عبدالهادي سعدون جزءا مهما من تاريخ وثقافة الغجر، إذ يتتبع أصول هذا العرق ومسارات وصوله من الهند عبر أوروبا وأخرى عبر أفريقيا إلى أسبانيا والإرث الهائل الذي حمله من ثقافات وحضارات الشعوب التي هاجر منها أو مر بها، وتأثيراته على الموروثات الشعبية الإسبانية من أغاني وحكايات وموسيقى وغيرها. 
هذه المقدمة التي جاءت في 42 صفحة من إجمالي 230 صفحة من الكتاب الصادر عن "مشروع كلمة" بأبوظبي والذي ضم 79 حكاية مقسمة ومرتبة في أجزاء تحت مسميات: الحكايات الملحمية، الحكايات العجيبة المدهشة، الصراع من أجل البقاء، حمى الذهب، ليل الغجر الطويل، نور الإيمان والأحاجي الغجرية.
يلفت غارثيا إلى أنه لا أحد يعلم متى هاجر الغجر من الهند، لكن يُعرف عن إقامتهم في بلاد فارس، والتي غادروها في وقت متأخر ليستقروا في الشام وأرمينيا قبل الاجتياح العربي للمنطقة. بدءاً من القرن الـ 12 يلتمس لهم حضور في بلاد الإغريق البيزنطية، وفي القرن الـ 14 سينتشرون في بلاد البلقان. في عام 1385 يظهرون في رومانيا، وفي وقت متأخر في مدينة لونبيرغ (1417) ومدن ألمانية أخرى (1418)، وأيضاً في سويسرا (1418) وفرنسا (1419) وهولندا (1420) وإيطاليا (1422).
ويرى أن المؤرخين الأوروبيين في ذلك العصر أثبتوا مرات عديدة أن الغجر قد ُوجدوا في المدن كمؤمنين مسيحيين تم نفيهم بسبب عقيدتهم بالإضافة إلى اتهامات أخرى في أراضي مصر السفلى، وقد وصلوا كجماعات قبلية مؤلفة من عشرات الأشخاص يرأسهم قائد يلقب نفسه كـ (كونت) أو (دوق)، ويحملون صك عدم التعرض لهم مُوقع من إمبراطور هنغاريا سيغسموند أو من بابا روما نفسه يسمح لهم فيه بالتجوال بحرية في الديار الأوروبية لفترة سبع سنين أو أكثر.
ويشير غارثيا إلى أن الغجر قدموا في طوافهم بأوروبا عذراً مدهشاً بشكل تام: وهو أنهم قد طُردوا من مصر السفلى، أو منطقة تنتمي اليوم إلى سوريا ولبنان الحاليتين، آنذاك كانتا تابعتين للإمبراطورية العثمانية، بسبب اعتناقهم الديانة المسيحية والتي توافقوا معها بشكل سريع. 

حكايات الغجر
تشكيلات جمالية وضعها الغجر 

من المؤكد أنهم في تجوالهم في الأراضي الأوروبية كانوا قد سمعوا أكثر من حكاية عن شأن منتشر في المسيحية وقد وصل حتى أيامنا هذه: خلال هروب العائلة المقدسة إلى مصر، ساعدها أكثر من شخص وحيوان ونبات، وأساء إليها آخرون. قوة هذا التقليد المزيف جعلتهم يعلنون عن أنفسهم أنهم من ذرية أولئك الذين خانوا العذراء والمسيح الطفل والقديس يوسف. أو أن إحدى الأرواح الشريرة والمجهولة ساهمت في الترويج لحكاية الهروب من مصر وشملت الغجر فيها بإعتبارهم أبطالاً لها. على العموم، فالعائلة المقدسة لا بد وأنها قد التقت مع أحد هؤلاء المصريين الأغراب الذين يتواجدون اليوم في أوروبا. توطدت هذه الحكاية وتجذرت بين الغجر الذين قطنوا وسكنوا في أوروبا، بحيث إن هالة الشعب الملعون قد تعاظمت ولا بد من أن يتم تبرئتها حسب ما تمليه الديانة المسيحية.
وحول تجديد الغجر للفلكلور الإسباني يلفت غارثيا إلى أنه في احتفالات الكوربوس الدينية للقرن السادس عشر تزين الغجر بحذق ضمن المشاهد الوعظية والدمى الخرافية والأقنعة والهيئات العملاقة والرقصات والعربات الملكية. في هذا المناخ الاحتفالي تبرز لنا الأخبار الأولى عن الغجر في إطار الحفلات الدينية لمناطق مختلفة. في منطقة كارانثا (بثكايا) يرقصون في استعراض ديني عام 1559 وقد شاركوا فيه منذ وقت أبعد من ذلك. إن حضور الراقصين الغجر في استعراضات الكوربوس وغيرها من الاحتفالات الدينية يعود حتى القرن الثامن عشر، وفيها كانت تتم المشاركة بالعنصر النسوي "حيث يقمن بحركات العقدة والترقيص بطابع مدهش"، وهذا تجديد كبير خاصة إذا ما عرفنا أن التقليد في رقص الاستعراض الديني كان مقصوراً على الذكور.
ويشير إلى إن التشكيلات الجمالية التي وضعها الغجر أخذت مكانها في الأوساط الريفية الإسبانية، حيث بدأت تبرز مظاهر الرقص العفوي على الطريقة الغجرية. لقد أحدث الرقص الغجري تطويراً يصل إلى يومنا هذا. إن "رقص الغجرية" لا يزال يحافظ على طرازه في منطقة هيخار في تورولينسا وفي منطقة تاراغونا، وهناك أدلة على وجودها في مناطق آراغونية أخرى وفي محيط مدينة برشلونة ضمن ما يسمى بمنطقة البايّس. إن واحدة من المظاهر الأكثر حضوراً في الاحتفالات الدينية كان يشكلها الغجر، فقد كانوا يتنكرون في هيئات الملوك وبشر من قارات مختلفة. كانوا يؤدون أدوار الملوك الكاثوليك باعتبارهم الأخيار، أما الآخرون، خاصة الغجر الأتراك فهم رمز للشر، لذا يسخرون منهم ويهزمونهم. مع مرور الزمن، أصبح دور الغجر مقتصرا على تأدية الأدوار الغرائبية لبشر من قارات أخرى. وأيضاً عمالقة في هيئات غجرية تم إضافتهم إلى المسيرات الدينية مثلما في مدينة سقوبية عام 1620 وفي مدينة بورغوس عام 1753.
ويرى غارثيا إن الحياة المشتركة للغجر منذ وصولهم إلى إسبانيا شكلت ما يشبه أوديسا: في القيم التي تنقلها قصائد الرومانث ذات الطابع الروائي ـ الملحمي والتراجيديا التاريخية جاءت كانعكاس لمشاعرهم نفسها. يضاف إلى هذا أن الشيفرات الأخلاقية الملاصقة للملحمية تتوافق مع القيم الغجرية، بما فيها "الثأر للدم" أو "الثأر القديم"، كراهية يتوارثها الأبناء من الآباء بسبب الشرف العائلي المثلوم، على الرغم من أن هذه القيمة قد بدأت تفقد صلاحيتها في الوقت الحاضر لكونها مرفوضة تماماً من قانون المسيح.
ويقول غارثيا إن الغجر ونتيجة لما عانوه في أجسادهم مباشرة من تهجير وطرد لمرات عديدة بسبب ما طالتهم به السلطات المدنية وأخرى غيرها بسبب طبيعة أنظمة الغجر أنفسهم في شأن الجرائم الداخلية، فقد فهموا جيداً آلام السِيد عندما تم طرده من أرضه، وبشكل أكبر ما جرى من عقاب للسِيد القمبيطور إنما جاء نتيجة لشجاعته المتفردة. ومع ذلك فالحكايات الملحمية التي يمكن جمعها اليوم من تراث الغجر لا ترجع تاريخياً إلى القرن الخامس عشر. 
في عام 1916 تعرف الموسيقي الكبير وعالم الفلكلوريات مانويل مانريكه دي لارا على غجري من مدينة إشبيلية كان يعيش في شارع بوريثا في حي تريانا، نفس المنزل الذي كان يخرج منه مصارع الثيران المعروف كاغانتشو، غجري أيضاً، سيراً على الأقدام حتى ساحة مصارعة الثيران لامايسترانثا ليقوم بعمله على أكمل وجه، هذا الغجري الذي كان اسمه خوان خوسيه نينيو فاجأ عالم الفلكلوريات وجميع الباحثين في حقل قصائد الرومانث المسماة "رانثيو آبولينغو" ذات الإرث الإسباني، وكان قد ظن الكثير منهم أنه نوع شعري منقرض شفاهياً. هذا الرجل كان يلقي الأشعار ويغني قصائد قديمة مثل: برناردو يقابل الملك وبانياندو في السجون، ورودريغيو يثأر لأبيه، وخيمينا تطالب بالعدالة، ومنفى السِيد، وشكاوى دونيا أُوراكا، ويا للحمامة الضائعة!، وبيلاردو، وبالدوبيناس، وهيا إلى السلاح، والموريسكي، ورونثيسبايس، وغيرها. كلها تدور حول موضوعات قديمة في الملحمية الإسبانية والفرنسية التي بقيت حية في ذاكرة غجري أُمي، والمنسوبة إلى فرع مختف له علاقة قريبة بقصائد الرومانث في القرن الخامس عشر، وبقيت متداولة على ألسنة العامة. أعمال الميدان البحثي التي جرت فيما بعد أثبتت أن هذه الموضوعات القديمة لاما تزال حية بين غجر مناطق أندلوثيا المنخفضة.

ويضيف أن الغجر أعادوا صياغة الحكاية الملحمية التي تعرفوا عليها بعد وصولهم إلى إسبانيا والتي تابعوا الاستماع إليها فيما بعد عن طريق الكتابة باللغة الإسبانية. لكن الشعب الغجري لم يضف شيئاً إلى ما هو مدون من الأناشيد الملحمية: فقط ضمن ما يشير لمآثر شجاع الغجر كما هي عليه في حكايتي حصان توتانا النحيف وتحدي الجمجمة اللتين تضمان بعض العناصر الموازية للحكائية الملحمية. 
إن تميز الغجري يكمن في مسألة الخلق الغنائي والتميز في الصنعة الغنائية المتفردة. عندما نتحدث عن الفلامنكو فإننا نتحدث بلا شك عن الفن الخاص بالغجري الإسباني، حيث نرى الأثر بوضوح في أغاني الرومانثيرو والغنائية الشعبية القديمة وبعض "المقطوعات" ليست القديمة منها وحسب بل تلك التي يشتركون فيها مع البشر الآخرين. لكنها على شفاه وفي أيدي وأقدام الغجر، تتشكل الموضوعات الجديدة والقديمة وتخلق لنفسها طابعا خاصا بهم.
ويوضح غارثيا أنه من ضمن الأمتعة الثقافية لغجر إسبانيا نجد بضاعة ثمينة كما في الملاحم القديمة: مجموعة الحكايات الكثيرة والرائعة التي يمكننا الاستماع إليها على ألسنتهم. تتضمن قصصاً قديمة لا تمت بصلة لقصص مؤسسة والت ديزني، وقصص هذه المؤسسة الأخيرة التي حولتها إلى نصوص معاصرة ذات صبغة فلكلورية، وتحولت إلى نمط حكاية الأطفال كما هي عليه في: كابروثيتا الحمراء، سندريلا، ندفة الثلج، القط الذي يرتدي الحذاء، عازف ناي هاملين، بيتر بان، والخنازير الثلاثة... وفيما لو تركنا الحكايات المذكورة سلفاً والبعض الآخر من إنتاج مؤسسة ديزني، سوف نجد أنه يشترك العديد من البشر بأنهم لا يعرفون أية صيغة أخرى لهذه الحكايات المدهشة. ولكن عن طريق بعض الحكواتية الغجر يمكن التوصل إلى سماع حكايات مدهشة أخرى من التراث الشفاهي. وعلى الرغم من أن هذا التراث الشفاهي بدأ يضمحل تدريجياً كما هو عليه في بقية المجتمعات، إلا أن هذا لم يحدث مع الغجر إلا في فترة قريبة نسبياً، ولحسن الحظ، ما يزال هناك أشخاص قادرون على نقل الكثير من هذا النتاج.
ويؤكد أن جزءا من تاريخ وثقافة الغجر التي أزيح عنها الغبار مقدمته تتجسد في القصص المدهشة التي تتضمنها حكايات هذا الكتاب. ويضيف "إن هذا العِرق البشري الساحر وقد اجتاز ليل القرون على ضوء النجوم الخافت، سمح في حكاياته أن تظهر انعكاسات تخوفاته وآماله: الأرواح والسحر، الموت والتنبؤ، الأمراض والوصفات الإعجازية. مع ذلك، عندما تفيض مملكة الفنتازيا فلا سبيل إلى تقييد الإبداع الأدبي: تستطيع سمكة أن تضم في أصدافها كل ألوان العالم، ويمكن أن تتحدث أيضاً، ولحمها يصلح طعاماً لامرأة تلد توأمين، من عظامها تأكل مهرة تلد توأمين متماثلين، وذيلها يصلح كطعام لكلبة تلد كلبين دفعة واحدة. 
ويرى أنه مثل كل جماعة بشرية، فالغجر يعشقون الحكايات ذات النهايات السعيدة. بل ربما هم أكثر في هذا من بقية المجتمعات، لأنه لا وجود لشعب مثلهم له رغبة في الحرية التي افتقدها دائماً، ولا يوجد هناك إنسان مثلهم يحلم ببحار بعيدة وأميرات رائعات وممالك مسحورة بينما الحياة تجري في عروقه. لقد عثرنا على بواعث فلكلورية شائعة في هذه الحكايات: جمجمة حمار تظهر بشكل مستمر، شحم الخيل وحليب اللبؤة هي دائما كعلاج طبيعي، وإعصار رياح أو مياه تنقل البطل إلى عالم بعيد، تدخل العذراء كارمن بدا رائعاً بدلاً من أن يكون إعجازياً. يا ترى ما الغموض الذي يكمن في الخيول والريح الهائجة لكي تظهر مراراً في قصص الغجر!.. ومظهر متميز آخر في بعض حكايات هذه الجماعة هو أصولها المرتبطة بقصائد الرومانث التي تمت بصيغتها النثرية. وهو ما يحدث مع حكايات برناردو ديل كاربيو و"سادة فرنسا الاثني عشر والعملاق"، و"الفتاة المقاتلة" التي جاءت على لسان الحكواتي العظيم ابن مدينة بورغوس خوسي ماريا غاباري، وكذلك "الماروخو" وهي حكاية مستله من أشعار رومانثية أصلية، وفي "الأم بلا يدين" حيث تتضمن بقصدية تامة أربعة أبيات رومانثية لقصيدة "الحماة الشريرة".