توفيق الحلّاق يفضح القهر الأبوي في 'تحرير يسرى'
لندن - عن منشورات رامينا في العاصمة البريطانية لندن، صدرت مجموعة قصصية جديدة للكاتب السوري توفيق الحلاق بعنوان "تحرير يسرى"، وهي عملٌ سرديّ مكثّف ينقل القارئ إلى عوالم معتمة في قلب المجتمع الدمشقي، حيث تتقاطع مآسي الطفولة، وقمع السلطة الأبوية، وازدواجية القيم، عبر أربع قصصٍ تقف عند حافة الجرح الإنساني.
العنوان الذي تحمله المجموعة يشير إلى القصة الأولى والأطول فيها، والتي تشكّل ما يشبه الرواية القصيرة، وتحمل ذات الاسم: "تحرير يسرى".. وتأتي هذه القصة بوصفها شهادةً دامغة على مأساة فتاة يتيمة تُسجن من قِبل والدها في غرفة مظلمة لسنوات، مقيدة بسلسلة حديدية، بعد أن راوده شكّ إزاء سلوكيّاتها. يستعرض الكاتب، بأسلوب سينمائيّ توثيقيّ، رحلة إعلاميّ يعمل في التلفزيون السوري، يُفاجأ بخبرٍ عن وجود طفلة مسجونة، فيتقصّى الأمر ويقود عملية تحريرها على الهواء مباشرة، وسط ذهول الجيران والمجتمع المحلي.
القصة لا تتوقّف عند تحرير الطفلة من قيدها الحديدي، إنّما ترصد مأساة ثانية تبدأ بعد التحرير، حيث تجد يسرى نفسها متنقلة بين مؤسسات الدولة: من دار الأيتام، إلى دار الفتيات الجانحات، ثم إلى دار العجزة، ليكتمل المشهد التراجيدي في حلقة من التهميش والإقصاء، وتنهار بطلة الحكاية تحت وطأة اغتصاب متكرّر، وحرمانٍ من أي شكل من أشكال الدعم أو الحماية.
أما القصص الأخرى في المجموعة، كلٌّ منها كشهادة سردية على جوانب متفرقة من حيوات السوريين البسطاء الذين سحقهم الزمن، وغابت عنهم العدالة، وسقطوا في هوّة الذاكرة المنسيّة.
وفي هذه النصوص، يواصل الحلاق نهجه في بناء شخصيات قادمة من الهوامش، ينحتها من الطين والعرق والجوع، ويمنحها صوتاً حادّاً يكشف المستور عن بنية اجتماعية تهرّأت تحت وطأة العنف المنزلي، والفقر، والاستبداد.
توفيق الحلاق، الإعلاميّ المعروف وصاحب البرنامج التلفزيوني الشهير "السالب والموجب"، يوظّف خبرته في السرد البصري لإعادة إنتاج الواقع المؤلم بجرأة نادرة، مستنداً إلى وقائع موثقة وشهادات حيّة عاشها بنفسه أو كان طرفًا في كشفها. ومن خلال قصص هذه المجموعة، يقدّم نقدًا صامتًا، لكنه قاسٍ، للمؤسسات التي ادّعت الرعاية والحماية، في حين كانت تكرّس الصمت أو التواطؤ.
الكتاب الذي جاء في 112 صفحة، بتصميم الغلاف والتنسيق الداخلي للفنان جونا ليونارد، يمثّل جزءًا من سردية توثيقية أوسع لتجربة الحلاق في الإعلام السوري، وتلمّسه لحكايات خفية عن ضحايا مجهولين، لم تسعَ الكاميرا إلى توثيقهم إلا حين انفجرت الحقيقة في وجهها.
ممّا جاء في كلمة الغلاف:
القصص التي تضمّها هذه المجموعة بلوحاتٍ نابضةٍ بالحياة، تختصر تفاصيل تجارب إنسانيّة معقّدة، وتجسّد تناقضات الوجود في عالمٍ مثقلٍ بالقهر والأمل على حدّ سواء. من "تحرير يسرى" إلى "وحش المرجة اللطيف" و"منى الجميلة" و"بائع اليانصيب"، تتبدّى أمامنا عوالم متشابكة، تكشف عن بشاعة الظلم وقوّة الإنسان في محاولاته للنجاة.
تمثّل قصص المجموعة خريطةً جغرافيّةً ونفسيّةً لرحلة الإنسان في محاولاته المستمرّة للتحرّر من القيود المادّيّة والمعنويّة. نجد الشخصيّات محاصرةً، إما بقيود عائليّة أو اجتماعيّة، حيث يصبح الظلم عدوّها الأوّل. ورغم ذلك، يحمل كلّ بطلٍ أو بطلةٍ شعلة أملٍ، مهما كانت ضئيلة، تنير طريقاً نحو التحرّر.
يتناول توفيق الحلّاق في قصصه قضايا أخلاقية متجدّدة، مثل دور المجتمع في دعم أفراده، وحدود المسؤوليّة الفرديّة والجماعيّة تجاه المظلومين. ويطرح تساؤلاتٍ صعبةً حول كيفيّة مواجهة القهر حين يكون جزءاً من نسيج الحياة اليوميّة، وكيف يمكن للإنسان أن يبقى إنسانيّاً في وجه الظلم الذي يهدّد بتجريده من جوهره.
ما يميّز قصص هذا الكتاب أنّها تبحر عميقاً في التفاصيل اليوميّة، حيث يتحوّل العادي إلى استثنائيّ، والمأساة إلى نقطة انطلاقٍ نحو الأمل. بين قيدٍ وسعيٍ للتحرّر، تترك هذه القصص في النفس أثراً دائماً، يدعو للتساؤل: هل التحرّر رحلةٌ خارجيةٌ أم أنّه يبدأ من أعماق الذات؟
وتوفيق الحلاق إعلامي وكاتب روائيّ وقصصيّ سوريّ، يقيم حالياً في العاصمة الأميركية واشنطن، وهو متزوّج وأب لفتاتين وشابّ، وجدّ لثلاثة أحفاد. أنتج حوالي أربعة آلاف ساعة من البرامج التلفزيونية والإذاعية، تتنوّع بين مواضيع اجتماعيّة، ثقافيّة، وتعليميّة محلّيّة وعربيّة. صدرت له عن منشورات رامينا مجموعة قصصية بعنوان "سامية تهدّد بالانحراف"، ونشر حتّى الآن سبعة أجزاء من رواية "دارنا العربية"، وعدّة مجموعات من القصص القصيرة والقصيرة جدا.