'باليتير' تقدم لك درسا في صنع سعادتك بنفسك

رواية الكاتب البلجيكي فيليكس تيمرمانز ترسم أجواء الحياة الريفية الفلمنكية وانعكاسات الطبيعة الخلابة على أرواح شخصياتها في حياة لا تعكرها لحظة كئيبة.

كُتبت هذه الرواية "باليتير" للكاتب البلجيكي فيليكس تيمرمانز لتشكل ترياقًا لبؤس الحرب العالمية الأولى في بلجيكا المحتلة، حيث ترسم أجواءالحياة الريفية الفلمنكية، وانعكاسات الطبيعة الخلابة على أرواح شخصياتها، لا توجد في حياتهم لحظة كئيبة، يغنون بأعلى أصواتهم وهم يحتفلون بالمهرجانات ويحضرون القش بمرح، ويصفعون بعضهم البعض على أكتافهم ويتبادلون القبلات، وعندما يسقط أدنى ظل على الأرض، فإنهم ينظرون بثقة إلى السماء، ويجدون الشمس تشق طريقها عبر السحب.

تدور أحداث الرواية الصادرة عن دار صفصافة بترجمة منار عادل حول باليتير الذي يعيش مع أسرته حياة سعيدة هادئة بكل تفاصيلها بين المراعي والطبيعة والأنهار والسماء، معتمدا على مبدأه في الحياة "أصنع سعادتي بنفسي" وساخرا من المؤسسة الاجتماعية والدينية، يقع باندفاع وعنفوان في عشق الفتاة ماريكا ويتزوجها على الرغم من معارضة أسرته، وينجب منها ثلاثة أطفال، ولكن فجأة تأتي له أخبار غير سارة تتمثل في قرار مد خط سكة حديدية، وأنه سيتم ضم أراضيه ضمن الأرض المقررة للسكك الحديدية، ليقرر مغادرة قريته باحثا عن بداية جديدة في عالم الريف والطبيعة الرحب.

تمجد الروايةجماليات الحياة اليومية بالريف والخصوبة والاتصال الحميم والمباشر مع الطبيعة.حيث تقدم الأحداث بترتيب زمني، انطلاقا من شهر مايو وتستمر عبر المواسم المختلفة. لا يعود الكاتب إلى أحداث الماضي ولا يتوقع حقائق المستقبل، بل يترك لشخصياتهم عيش مفردات الحرية مع الطبيعة بكل ما تلقيه من أثر نفسي على ذواتهم.

ويعد فيليكس تيمرمانز (1886 ـ 1947) هو أحد أشهر الكتاب الفلمنكيين، وكان أسطورة في زمنه حيث احتفي به وبأبطال رواياته ومنها هذه الرواية "باليتير" التي تعد أنجح أعماله على الاطلاق.

كتب تيمرمانز الرواية والمسرحية والشعر والقصص القصيرة، فضلا عن كونه رساما، فاز بالجائزة الوطنية للأدب الفلمنككي 1922 كما فازت أعماله بجوائز عديدة، وتم ترشيحه لجائزة نوبل للآداب أعوام 1928 و1940 و1941، وقد ترجمت أعماله إلى مختلف اللغات، وهذه هي المرة الأولى التي يترجم فيها إلى اللغة العربية.

مقتطف من الرواية

الخروج إلى العالم

أصبحت العربة المغطاة جاهزة. وقف الجميع؛ الراهبات والرجال المكفوفون الثلاثة والعديد من الرهبان المبتدئين والقسيس والتفوا حول العربة لتوديع أصحاب مزرعة رينارد.

بينما تجلس ماريكا في موضعها داخل العربة مع الرضع الثلاثة وشارلوت تستمع بورع إلى نصح القسيس الكريم، ذهب باليتير ليجلب الجواد الذي كان لا يزال يرعى في المرعى. كانت بيارد الطيبة تلعب وتهرول باتجاه السد، عندما رأت سيدها قادمًا، لكن باليتير أمسكها وقفز فوق ظهرها. تمتم باليتير: "مملكة الأراضي المنخفضة! أنت تجعلين الفراق صعبًا". وأطال النظر إلى المنظر. كان وقت ما بعد الظهيرة، وكان المطر يتساقط بشكل متقطع، في قطرات كبيرة، ثم يتوقف بعض الوقت، ويعود يسقط بخفة مرة أخرى؛ لكنه أخرج رائحة عطرة من الأرض، الزهور والقش الذي يتم سحقه في المراعي في كل الأنحاء المجاورة. غردت طيور الشحرور والسمنة وأوريولز وشرشور وقرقف وأبو فصادة تغريدات مرحة من الأشجار؛ وضمن كورس الهواة هذا كان العندليب الملكيّ يصدح مثل آلة الفلوت الذهبية، كان يقف بين الأشجار ويطلق ألحانه مع كل قطرة مطر تلمسه.

أحاطت بالأرض هالة من الرفاهية وانبعث من جميع الكائنات رقة لطيفة. كانت السماء رمادية زرقاء دافئة، واختفى الأفق هنالك خلف الضباب الأزرق مثل البخور.

صاح باليتير: "هنالك يكمن العالم!". مجرد أن خطرت له هذه الفكرة أصبح متشوقًا ليبدأ رحلته.

"هيا اصعدي!". صاح مناديًا شارلوت، التي كانت تخرج من المنزل مع آخر متعلقاتها الثمينة.

توقفت، وقد غمرتها المشاعر فقد حان وقت الوداع الأخير. نظرت لجميع أصدقائها -الراهبات والمترهبنين الجدد والقسيس- ثم انفجرت في البكاء بصوت عالٍ، وانهمرت الدموع فوق وجهها.

قالت وهي تختنق بعبراتها: "كنت سأصبح راهبة بكل سعادة، لكن ماذا كانت ستفعل أم شابة مثل ماريكا مع الأطفال الصغار الثلاثة؟ يجب أن يساعدها أحد في رعايتهم. أليس كذلك؟".

"بالطبع" أجابت جميع الراهبات والدموع تترقرق في أعينهن أيضًا.

"لا يزال يمكنك أن تبقي هنا إذا أردت". قالها باليتير وهو يوثق الرباط الأخير في سرج بيارد.

"آه، كيف يمكنني العيش دون رجلك؟". قالها القسيس لماريكا وهو يتنهد ويهز رأسه.

"هيا، لن يكون الأمر حزينًا، فرانسو ما زال هنا".

صاح باليتير: "ها قد حان الوقت". قالها لشارلوت التي لا تزال تنتحب؛ "اصعدي!" ورفع حقيبة القش فوق كتفه.

"انتظرلحظة!". قالها القسيس وهو متأثر بعمق، ثم رسم علامة الصليب لباليتير وماريكا ووقف على أطراف أصابعه ليفعل المثل مع الأطفال الثلاثة الذين حملتهم ماريكا له للخارج؛ وبينما هي تميل برأسها تجاهه قال: "أيتها الأم الشابة، دعينا نأمل أن تنجبي المزيد من الأطفال. الوداع، بارك الله فيك!". وتنحى جانبًا وبدأ يبكي في منديله الأحمر.

خيم صمت مؤثر. لم يكن هناك شيء يمكن سماعه سوى شهقات الكاهن والنساء. أغلب الظن أن باليتير كان سيبكي هو الآخر، لكنه فكر في الأمر بشكل أفضل وصاح ضاحكًا:

"من سيذهب معنا؟ من سيأتي الآن؟ يمكنكن الحصول على زوج صيني. هل سيأتي أحد؟".

ترددت الضحكات هنا وهناك، وتمتم القسيس: "أنت كما أنت دائمًا!".

"حسنًا، لا أحد؟". سأل باليتير مرة أخرى. "لقد ضاعت الفرصة! سوف أجعل شارلوت تتزوج من رجل زنجي وأطفالها يمكن أن يكونوا راهبات، الراهبات السود الصغيرات!".

"باليتير، فتاي، أرجو أن تسير الأمور معك بشكل جيد". قالها القسيس وقبلا بعضهما بعضًا.

صاح باليتير: "اشرب كأسا في نخبنا!".

أجاب القسيس: "سأفعل، سأشرب اثنتين".

نبح ليوباس بفارغ الصبر. كانت الأراضي الزرقاء والعالم الواسع هنالك!

كان باليتير يتوق لبدء الرحلة، صاح عاليًا للفرس: "هيا انطلق!". على الرغم من أن شارلوت كانت لا تزال تحاول مصافحة كل الراهبات والمترهبنين.

وتحركت العربة. بدأ أحد الأطفال في البكاء، فحملته ماريكا وأرضعته.

"إني قادمة! إني قادمة!". صاحت شارلوت وتركت الراهبات وركضت بأقصى ما تستطيع خلف العربة.

دفعها باليتير، الذي كان يسير بجوار العربة، للأعلى، ثم أخرجت شارلوت وجهها الأحمر خارج غطاء العربة وبدأت تلوح للراهبات، اللاتي وقفن في مجموعة يصِحن ويلوحن بمناديلهن. رفع الرجال الثلاثة المكفوفون عصيّهم في الاتجاه الخاطئ، والقسيس يلوح بقبعته وفرقع باليتير عاليًا بالسوط.

ردد باليتير صائحًا: "إلى العالم الخارجي! إلى العالم الخارجي!".

وها هو بيتر، طائر اللقلق، أتى محلقًا في السماء يطير خلف العربة، انفجر باليتير ضاحكًا لرؤيته وأراد أن يربت عليه ويمدحه، لكن بيتر وقف فوق غطاء العربة واضعًا منقاره بين الريش. ركض ليوباس في المقدمة وهو ينبح.

سارت العربة أمام سياج الدير بينما تساقطت الأمطار الخفيفة...

وقف فرانسو وزوجته بانتظارهم أمام الطاحونة. هنا توقف باليتير، وقاموا بشرب زجاجتين من النبيذ القديم بجوار العربة.

قال فرانسو: "ستتمتعون بطقس جيد، هذه الأمطار رقيقة على الأرض".

وحذرت شارلوت باليتير: "ارتدِ معطفك؛ إن قميصك سوف يبتل بشدة".

"إن كل قطرة تسقط فوقه، ممتعة مثل قبلة من عذراء". قالها باليتير وترك قميصه يبتل في سعادة.

سأله فرانسو: "أين ستذهبون أولًا؟".

"إلى الطريق الذي ترشدني إليه عباءتي". أجاب باليتير وألقى بعباءته عاليًا التي سقطت باتجاه الجنوب الشرقي. صاح ببهجة: "باتجاه الشمس".

"ثم بعد ذلك؟".

وأجاب باليتير وكأنه يغني: "هولندا والنرويج وإسبانيا وبلاد الجليد والشمس، إلى أريحا، أو إلى منتصف الطريق للجحيم، أو إلى أرض افعل ما يحلو لك، إلى أرض القردة. سأتبع حدسي على طول الطريق! الوداع!".

دخل بيتر إلى داخل العربة. قبلوا بعضهم بعضًا قبلة الوداع.

"تعالي هنا". قالها فرانسو ضاحكا وقبّل شارلوت فوق خدودها الحمراء قبلة تلو الأخرى.

تراجعت شارلوت إلى داخل العربة، وقد احمرت غضبًا حتى جذور شعرها.

صاح باليتير بحماس: "هيا بنا ننطلق باتجاه الشرق". وبمجرد أن جلست ماريكا بموضعها بداخل العربة، انطلقت العربة مرة أخرى مخترقة الطريق السريع جنوبًا عبر الحقول والمراعي.

صاحوا ولوحوا بأيديهم بعضهم لبعض مرة أخرى، وبعد لحظات كان فرانسو وزوجته يلوحان لهم بمناديلهما من أعلى نافذة في الطاحونة.

هنالك تمتد الأراضي الزرقاء والعالم الواسع الضخم. كان باليتير يسير بجوار العربة، يحمل الحقيبة الزرقاء فوق كتفه، سعيدًا بالمغامرة. أخيرًا العالم كله أمامه؛ ممتدًّا ومشرقًا وهادئًا؛ مثل الجنة.

المراعي مليئة بآلات الحصاد، يتردد فيها حفيف المناجل، والماشية بهية في الحقول؛ الطقس المتلألئ يمطر قطرات الماء فوقهم ببطء، التي تُخرج روائح الأرض الطيبة، وتصيح الديوك.

وتمتد خلفه الأراضي المنخفضة، حيث عاش لسنوات، والتي سيحمل جمالها في قلبه إلى الأبد.

وقف ساكنًا ليتأملها وترك العربة تستمر في السير. تدير الطاحونة أشرعتها الحمراء فوق الأشجار. احتمى الدير بسلام خلف أشجار السياج الضخمة، وقد امتدت الحقول والمزارع خلفه؛ كانت الأغنام ترعى ومجموعات الإوز تتحرك في الجوار؛ تدفق النهر في مساره عبر الحقول والسدود، وهو يحمل القوارب معه، ويطير الحمام في الأنحاء.

"مرحى أيتها الأرض!" قالها باليتير صائحًا وأخذ حفنة من تربة الأرض ووضعها في جيبه وتمتم: "إنها أرض مقدسة". ثم استدار ونظر إلى غابة الدير الشاسعة، الأراضي الزرقاء البعيدة، العالم الواسع. التقط ريشة ديك ووضعها في قبعته. وسار بلا مبالاة كالطفل خلف العربة ذات الغطاء الأبيض التي كانت تتبختر أمامه على الطريق السريع.

امتد الوادي المنخفض الواسع بعيدًا؛ تحت السماء الرمادية الباهتة وقت تساقط الأمطار.

في ظل كل هذا الاتساع؛ بدت المنازل كتلال النمل، والغابات مستوية، والقرى وطواحين الهواء بدت صغيرة وضئيلة؛ والناس أصغر من ذلك، كالنقط في المشهد، العمال منشغلون بأعمال الصيف النشطة. العربات المحملة بأكوام القش تسير على الطرق ذهابًا وإيابًا، وسارع الناس حول النهر الذي أحاط الأراضي الخصبة في حلقات كبيرة لامعة؛ بدت القوارب ساكنة، بينما زحف قطار سكة حديد أسود ببطء، تاركًا خلفه خطًّا طويلًا من الدخان الأبيض. زفرت المنطقة بأكملها رائحة غنية مثل البخور، وفجأة برزت الشمس شاحبة من جهة الغرب، أرسلت أشعة قوية أضاءت القرى وانعكس بريقها على طواحين الهواء؛ وظهر قوس قزح يتألق ببريق لا مثيل له فوق هذه البلدة الرائعة المزدهرة.

ابتهج العالم!....

وها هي! بقعة بيضاء بعيدًا في الجنوب الصافي؛ العربة المغطاة تتمايل تحت قوس قزح العظيم.

وها هو باليتير؛ الباحث عن السعادة بكل أنوعها، يبتعد عن أرض "نت" في سعادة؛ ينطلق إلى العالم الواسع الجميل مثل الطيور والرياح.