برصوم برصوما والدهشة المغيبة

حين يكون الفنان قادماً من ملخصات سومر لا بد أن يحيلك الى تراكيب لا فكاك منها ومن البحث في اشاراتها الدقيقة وان كانت بلغة فنية شأنها شأن لوحة مرسومة بعناية فائقة يخلق لديك فسحة كبيرة من التأمل.

حين يكون الفنان قادماً من ملخصات سومر لا بد أن يحيلك الى تراكيب لا فكاك منها ومن البحث في اشاراتها الدقيقة وان كانت بلغة فنية شأنها شأن لوحة مرسومة بعناية فائقة يخلق لديك فسحة كبيرة من التأمل، فمنذ تجربته الاولى كانت النمنمات هاجسه الاول فأنجز الكثير منها عبر لوحاته التي يترك فيها نافذة مفتوحة نطل منها للوصول الى مسارات كان قد أتقن صنعها محققاً مفهوم الرسم من داخل اللوحة، فحكايته مع اللون.

يبدأ من الداخل فهناك يبعث الروح في عمله ليخلق دهشة كانت غائبة على مدار الولادة فمع هذه الدهشة تلد عواطف ووجدان مصنوعة من حبال قوس وقزح، حينها فقط ودون شكوك سنصل الى خواطره الفنية المعتاد على رشها في تفاصيل نمنماته .

كان طبيعياً أن يقيم الفنان برصوم برصوما (الحسكة 1947) مأدبته بين الأساطير وعلى نحو أخص أساطير مابين الرافدين التي ترافقه في الكثير من أعماله، فهو أصلاً من هذه السلالة فجذوره تمتد في حضارة الرافدين، حضارة بابل وسومر وآشور، حضارة النبع الرقراق والغزير لتدفق الأساطير والملاحم التاريخية، أقول كان طبيعياً أن يرافق ذلك برصوم ومن هذا النبع الذي إغتسل فيه تموز وعشتار ليكون مباركاً يرتشف برصوم منه كنوزه التي كادت تشكل صدمة ثقافية جميلة بكائناته البشرية التي فيها من الدهشة والغرائبية الكثير وبنمنماته العذبة التي تحملك حين التمعن فيها إلى مشارف عصر بائد لكن ثرٍّ تجلى فيها الخلود متراساً للنهضة، وبالإتكاء عليها أقلع برصوم نحو عالم قد تفرض عليه شعوراً بالحنين نحو ماضٍ هو قنديله في إضاءة التربة العطشى له، هذه التربة التي فيها يزرع مشروعه الإبداعي ويمضي به متسلحاً بأساطير الأجداد، وبالمعرفة التي يحملها حديثاً نحو خلق طموح تحوّل لاحقاً إلى قضية تشغله في خطواته كلها، ويلخص ذلك الطموح وبيقين شبه تام بأن الإختلاف والمغايرة هما ثراء له أولاً وللحركة التشكيلية ثانياً وبأن التراث منهل غزير جداً ولهذا كان يبني جسوراً جمالية كثيرة لخلق التفاعل ودون مؤاربة بل بإرتياد زمن لا ينفي التأويلات الجمالية فالمسألة عنده هو عدم التخلي عن قيمه الإنسانية والتي ينبغي التوكيد عليها مراراً وبمكوناته المختلفة وعلى نحو أكثر الوقائع التراثية، التاريخية منها مع فرز وطرح غرائبية عذبة بين المستويات المختلفة منتظراً الآخر ليرسم إجاباته حسب الشروط التي تديره داخلاً والتي قد تتحكم به، وهي بطبيعتها لها كل القدرة على التفاعل مع صياغاته الجديدة التي سترسم بوابات سيدخلها برصوم بإدهاش كبير، بل ويدهشنا معه أيضاً، فعمليات البحث لديه تطرح حقيقة عذبة من الممكن طرحها بصيغة التساؤل التالي: أإلى هذا الحد برصوم مهوّس في الفن وبالفن وبهذا الشكل اللائق مغلفاً بمسؤولية كبيرة ضمن خصوصية تحمل كل معايير الإنتشار مع الإحتفاظ بالذائقة الإبداعية وهذا ما يجعل أعماله تغوص في ثنايا المتلقي بل في أعماقه وبنشوة غير قابلة للوصف، قبل أن يغوص المتلقي فيها، وهذا يسجل له ولطروحاته الجمالية، ولست أنا الشاهد على ذلك بل جل أعماله تصرح بذلك والتي تحمل كل الأهمية وعلى نحو أخص حين تحقق حركيتها في التداخل الذي يفسر وبإختصار شديد أن برصوم برصوما يُنْقل بأعماله من مستوى الحرفة إلى مستواها الإبداعي الغارق بتجليات الروح وبتراتيل تنبعث موسيقا من ثنايا القلب حيث الإنفعال الجميل والحس الراقي، اللذيذ الذي لا يمكن إغفاله بل تفتح كنوافذ جديدة لآفاق لونية فيها يخلق برصوم نوعاً من التعاون والحوار بين زركشاته الموغلة بالأحمر والأصفر.

ومن هذا المنظور المنطلق في علاقته بآفاق جديدة لا تخلو أعمال برصوم من إختزال في مدلولاتها الواسعة والتي تكتسي خصائص مغايرة للسائد وتحفل بالسعي إلى نثر كل تأثير وإقرار كل تفاعل إنساني بمبالاة مبطنة وبحيادية الحوار بين تفصيلاته، فرؤيته للأشياء يدفعه إلى عدم إغفال ما يندد بالقبح، ولم يكتف بالإنحياز إلى الإنسان بالمشاعر التي تغرق أعماله بل يمارس إقرار التباين مع مجايليه من فنانين آخرين، وفي حدود رصده المفاجئ لرؤيته التي تشي بمؤثرات تؤكد القيمة الفنية لمهاراته في كشف حكايا سرد التراتيل والتي فيها يتحقق عملية الخلق والتي ستترك أصداءها وبتأثير متزايد لها في تحرير وعي المتلقي بوصفها تحريراً لعلاقة هي لاحقة لمحاولة إستعادة بل إحياء لعلاقة معرفية في مداها المجدي.

وبرصوم ينتمي إلى الجيل السبعيني من القرن الفائت الجيل الذي إستطاع أن يرسي للحركة التشكيلية الجزراوية جذورها لتورق فيما بعد وتثمر على إمتداد البلاد (سورية) بل خارجها أيضاً إلى جانب أسماء آخرين كان ومازال لهم حضورهم رغم رحيل بعضهم نذكر منهم صبري رفائيل وعمر حمدي (مالفا) وزورو متيني وخليل عبدالقادر وبشار العيسى، ويوسف عبدلكي وحسن حمدان وعمر حسيب وفؤاد كمو وعزو الحاج.. إلخ.

والذين كان همهم الأول هو الإنسان والعناصر الباقية هي متممة حسب تعبير برصوم ولهذا كانت أعماله تتزاحم بالمشاعر الإنسانية وبالقيم التي تمجد الإنسان.