برنار بيفو والقوة الناعمة في 'مهنة القراءة'

كتاب المقدم الشهير ببرامجه الثقافية عبارة عن ذكريات مع أسماء مؤثرة على مستويات متعددة، ما يجذب أكثر فيه عدا ما يسردهُ صاحبه عن العناصر الأساسية في خريطة عمله هو اهتمام أعلام السياسة بالأدب والفكر في المجتمع الفرنسي.

الاهتمام بالثقافة والفنون من مقومات أساسية في برنامج وسياسة بعض بلدان العالم، ويتمُ التعويل على القطاع الثقافي بوصفه آليةً للتعبير عن العمق الحضاري والتاريخي، ودعم المفاهيم الفكرية والبعد الكوني في القيم المحلية، كما يلعبُ هذا المجال الحيوي دوراً مؤثراً في الترويج لنمط حياة الشعوب وتسويق رموزها، بحيثُ تتحولُ إلى رأسمالٍ حضاري يعبرُ الأنطقة المحلية، لذا فإنَّ البيئات الحيوية لا تجازف برمي أوراقها على طاولة الطبقة السياسية، بقدر ما تحين الفرص لإنشاء منصات متعددة ترفدُ سيرورة الإبداع وتجديد الأنساق والبنى العقلية، وتحمي الأذواق من التبلد.

ومن المناسب الإشارةُ إلى ما يذكرهُ الكاتبُ العراقي علي حسين في مؤلفه "في صحبة الكتب"عن موقف يجمعُ بين ثلاث شخصيات من خلفيات فنية وسياسية، إذ شاءت الصدفُ أن ترتادَ الفنانة الفرنسية بريجيت باردو مطعماً وجد فيه كل من بيكاسو ورئيس وزراء فرنسا هنري كويويل، فأراد الأخير دعوة الفنانة إلى مائدته متزامناً مع إشارة بيكاسو لها بأن تنضم إليه، فاختارت باردو الانصراف عن رئيس الوزراء ذاهبة إلى الرسام، مبررة تصرفها بأنَّ فرنسا يمرُ عليها الكثير من رؤساء الوزراء، لكن هناك بيكاسو واحدا لن يتكرر.

هذه القصة ربما تبدو بسيطة في الظاهر، غير أنها تكشفُ عن الوعي بقيمة الفن وتمثلاته الفاعلة، في اكتساب موقع الريادة في سياق التسابق الحضاري، والأهم على هذا الصعيد هو، وجود إرادة هادفة إلى صناعة القرار بشأن البرامج المحركة للحس المعرفي، وتطويع الآليات الفعالة لبناء الخطاب الثقافي.

مهنة القراءة

تندرجُ وسائل الإعلام ضمن المعطيات المؤثرة في تشكيل ذائقة المتلقي، وهذا ما تستشفه من حديث برنار بيفو عن تجربته مع تقديم البرامج الثقافية على القنوات الفرنسية، إذ استقطب جمهوراً واسعاً من خلال "أبوستروف" و"حساء الثقافة" واستضاف عدداً كبيراً من مشاهير الأدب والفن والسياسية في حلقات دسمة بالنقاش والاكتشاف، وفاجأ جمهوره بدعوة المهمشين الذين لا ينتمون إلى عالم الأدب، ولا إلى الفلسفة، وظهر على منبر برنامجه سارق البنوك سباغياري ونجمة السينما الإباحية بريجيت لاهاي. ومن المرتقب أن تثير هذه المحتويات الإعلامية ردود الفعل الساخطة في بعض الأحيان. أياً يكن الأمر فإنَّ ما يجدرُ بالتوقف عنده أكثر في الحوار الذي يدور بين الأكاديمي والمؤرخ بير نورا وصديقه بير ثيفوا، نشر بين غلافي كتاب بعنوان "مهنة القراءة"، حيث يكون الأخير على كرسي الاستجواب، هو رؤية بيفو للقراءة وما يجبُ أن يتمتعَ به مقدم البرنامج الثقافي من مواصفات محددة حسب ما يفهمُ من خبرته في هذا المجال، إذ تتحولُ القراءة إلى المهنة ويتطلبُ ذلك تكريس الوقت، فكان بيفو يقرأُ عشر ساعات في اليوم، أي بمعدل خمسة كتب أسبوعياً، وبرأيه إذا لم يقرأ المحاوِرُ الكتبَ فإنه يدور في دوامة أسئلة نمطية، ما يعني أنَّ الحوار لا يتطورُ، ويكونُ الأمرُ مخيباً للآمال بالنسبة للطرفين المؤلف والجمهور.

ومن المعلوم أن شعبية البرنامج عبرت حدود فرنسا، فكان السؤال الذي يواجه به بيفو في كل مكان هو لماذا "لا يوجد في بلدنا برنامج مثل أبوستروف؟" فكان لبنان المكان الذي استقبل فيه أوبستروف بحماسة كبيرة.

عطفاً على ما سبق فإنَّه يلفت الانتباه إلى ضرورة عدم تحويل البرنامج إلى حلبة للصراع بين المتخاصمين، ويبدو المقدمُ متكافئاً في معرفته بالضيف، لأنَّ ذلك يخلف الشعور بالتهميش لدى الجمهور. ويوافقُ بيفو ميلان كونديرا في قوله إنَّ قوة الصحافي لا تستندُ إلى الحق في طرح السؤال، بل في الحق في طلب الإجابة. ويرى أنَّ من المهم أن لا يكون الضيف في البرامج الثقافية مطالباً بإطلاق الأحكام على منجزه، بل يمكنهُ تقديم المفاتيح كاشفا عن طقوس تكوينه، قطعاً ما يقولهُ المؤلف بشأن عمله لا يسحبُ الكلمة من النقاد. والحال هذه فإنَّ المقابلة الذكية تهدفُ إلى الحصول على معلومات واعترافات عن المؤلف وطريقة كتابته.

وعلى الرغم من درايته بالقراءة وخبرته في المبارزات الحوارية لا يحسبُ برنار بيفو نفسه ضمن فئة النُقاد. لأن الثقافة الشاملة هي من متطلبات النقد، كذلك فإنَّ وجود روح استكشافية وقوة تحليلية من أدوات أساسية في المسعى النقدي. ويتطرقُ بيفو إلى تأثير مظهر المؤلف على المشاهد، فالأخير لا يطلقُ الحكم على المنجز الإبداعي بمجرد أن يقع نظره على صاحبه، بل المظهر الخارجي قد يكون دافعاً لاقتناء الكتب وقراءتها حسب وجهة نظر مقدم أبوستروف. ومن المتوقع بالنسبة لشخصية إعلامية من طراز برنار بيفو أن يتسابقَ الجميع لخطب وده، والاستفادة من منبره، لذلك قاطع كثيراً من الأنشطة واللقاءات التي كان يشاركُ فيها نجوم التلفزيون، تفادياً لسوء استغلال موقعه وبهذا كان يحمي استقلاليته، وبالتالي توفرَ له مزيدُ من الوقت للمُتابعة والقراءة، وفي الواقع أنَّ ما تمسك به برنار بيفو هو بمثابة مبدأ مهني تقومُ عليه مصداقية البرنامج الثقافي، وإذا غابت هذه الرؤية في الإعلام الثقافي تتحولُ المنصاتُ إلى غطاء للتكسب وتصدير العقليات الخاوية.

خارج السرب

التحدي الأكبر للبرامج الثقافية في المرحلة التي كان يقدمُ فيها برنار بيفو أبوستروف، أن الشكوك تسود لدى المفكرين حول التلفزيون ودور البرامج الإعلامية قبل الإدراك بأن السخرية في التلفزيون، ما هي إلا نزوة فكرية، ولم يعد التغافلُ عن دور وسائل الإعلام في تغير أسلوب الحياة وتعديل السلوكيات الاجتماعية ممكناً، وما رفع من سقف المغامرة بالنسبة لبيفوا، هو عدم انتمائه إلى النخبة الفكرية والثقافية، ولم يكن محسوباً على الرعية، أو ما أطلق عليه ريجيس دوبراي لفظ "المثقفون الراقون" غير أنَّ ذلك لم يمنع بيفو من اعتلاء منصة النجاح واختراق برج المثقفين ودعوة قامات فكرية أمثال، فوكو وبارت ورونيه جيرار وغلوكسمان إلى برنامجه، وهذا لا يعني صمت الأصوات المناوئة، إذ شنَّ عليه ريجس دوبراي هجوماً عنيفاً، مبدياً استغرابه من الشعبية التي تنافسُ المتاجر الأنيقة والصروح الأكاديمية.

ومن المعلوم أن شعبية البرنامج عبرت حدود فرنسا، فكان السؤال الذي يواجه به بيفو في كل مكان هو لماذا "لا يوجد في بلدنا برنامج مثل أبوستروف؟" فكان لبنان المكان الذي استقبل فيه أوبستروف بحماسة كبيرة. ويتفاجأُ بيفو بشعبيته الواسعة في لبنان عندما شارك في فعالية أسبوع ثقافي لبناني في بيروت. أكثر من ذلك فإنَّ إحدى القنوات الجامعية في نيويورك، اشترت حقوق 48 حلقة من البرنامج الأدبي، ما يؤكد تزايد جمهور أوبستروف في ما وراء البحار، إضافة إلى من ورد ذكر أسمائهم سلفاً، فإنَّ بيفو فتح حلقات النقاش مع كل من باتريك موديانو ومارغريت دوراس بوكوفسكي لوكليزيو سولجنتسين وبريجيت باردو. ميتران.. جيسكار ديستان.. كيسنجر، طبعا أن مسيرة بيفو الثقافية، صقلت ذائقته أكثر لذلك ما يقوله بشأن الكتب وإبحاره بين العناوين يفيد المتلقي، فبرأيه أن كمية الكتب تتناسب تناسبا عكسياً مع جودتها، لافتاً إلى ضرورة القيام بالنشاط الترفيهي القصير بعد قراءة فصول صعبة تتطلبُ جهوداً للفهم أو الحفظ. يصفُ برنار بيفو الجمهور بفئة أكثر محافظة لا يكون أعجابها بالإعلامي بالمستوى نفسه دائما، حتى لو كانت أدواره متشابهة. يُذكر أنَّ بيفو عمِل معلق كرة القدم خلال دورة المونديال، إذن تراكمت لديه الخبرةُ منذ أن كان مقيماً في ليون، وكان قد نشأ في كنف صاحبي متجر صغير وشغف بكرة القدم ولم يحصل على تعليم جامعي عالٍ، ونشرت له روايةُ وحيدة، مرت مرور الكرام، وذاعت شهرته من خلال إنجازاته في الإعلام الثقافي، بحيثُ لا يكون من المغالاة إذن القول إن نشاطات بيفو تقع في دائرة القوة الناعمة لفرنسا، إذ يبلغه أحد السفراء بأن ما فعله من أجل الفرانكوفونية في أمسية واحدة أكثر مما قدمه هو أو زملاؤه خلال أربع سنوات.

ما يضمه هذا الكتاب عبارة عن ذكريات مع أسماء مؤثرة على مستويات متعددة عدا ما يسردهُ بيفو عن العناصر الأساسية في خريطة عمله فإنَّ ما يجذب أكثر هو اهتمام أعلام السياسة بالأدب والفكر في المجتمع الفرنسي.