بريد الليل: رسائل في مهب الإنتظار

هدى بركات تنجح في الوقوف على مسافة محايدة مع شخصياتها الروائية دون التدخل أو التعليق من خلال التستر وراء الراوي.
البنية التراسلية في الشكل الروائي توفر مجالاً لصياغة عملٍ يتصفُ بتعددية الأصوات
إضافة إلى التغرب والمعاناة والوحدة تشتركُ شخصيات هدى بركات في التعري من اسم العلم بمعنى تعومُ في فضاء النص بدون علامات

البنية التراسلية في الشكل الروائي توفر مجالاً لصياغة عملٍ يتصفُ بتعددية الأصوات وذلك يتحققُ إذا لم تكن المادة المروية مُحملةً بوظائف أيديولوجية وغابت فيها النبرة الوعظية وبهذا يتواري المؤلفُ من المشهد وتوهمُ الأجواء بأنًّ دوره هو تنظيم محتويات النص، الأمر الذي يؤسس لأصوات مُستقلة لدرجة يبدو أنَّ الشخصيات الروائية مُنفصلةُ عن صانعها مثلما تجدُ ذلك في رواية "بريد الليل" للكاتبة اللبنانية هدى بركات إذ نجحت مؤلفة "حارث المياه" في الوقوف على مسافة محايدة مع شخصياتها الروائية دون التدخل أو التعليق من خلال التستر وراء الراوي، عليه فإنَّ كل شخصية تسترسلُ في سرد ذكرياتها المستعادة بصيغة الرسالة. ومع أن شخصيات الرواية تتقاطع مصائرها وتشتركُ في معاناة الغربة والحنين إلى زمن ضائع على رغم قساوته غير أن التفاصيل الدقيقة تميزُ بين التجارب والظروف الحياتية إذاً فالذاكرة موشومةُ بمرارة بيئات المنشأ وسنوات المنفى لذا تفقدُ الشخصيات صفاتها المكانية كأنها كائنات مرمية في اللامكان .
النزعة العبثية
واللافتُ في هذا الإطار هو تسرب النزعة العبثية في فكرة الرواية كما أنَّ محاولة الشخصيات للتغلغل في الأشياء المكونة لبنية الأمكنة تذكرك بتأملات "روكنتان" بطل رواية الغثيان في مظاهر ما هو مفارق له. فالمرأةُ التي تراسلُ حبيبها السابق وهو مقيم بكندا منتظرةً وصوله تعاينُ مكونات غرفة الفندق. "من يقعدُ في الفراغ يبحثُ لا إرادياً عن صلة له بالمعنى الذي للأغراض" وفيما تريدُ تأنس بالمكان يقعُ نظرها على رسالةٍ في دليل الفندق فما تقرأه مختلف عن قصتها لكن الوحشة هي ما تربطها بصاحب الرسالة. 

هدى بركات لا تغادرُ موقعها المحايد في القسم الأخير من الرواية إذ يكملُ البوسطجي المتكلم بضمير الأول السلسلة المتتالية. فهو يرتب الرسائل المتراكمة مع إضافة توضحيات لكل مغلف قبل أن يداهمه الموت

وقبل أن تسترجع ذكريات الأيام الماضية وتكتبُ عن تخييلها لشكل اللقاء تحكي عن سيناريوهاتها المفترضة حول مصير صاحب الرسالة وإحتمال تورط المرأة التي كان يحبها في مقتله ويحوم خيالها أيضاً حول رجل المخابرات الذي سبقها في الإقامة بالغرفة مراقباً الشاب. 
هكذا تتمُ متابعة جزء من الرسالة الأولى من موقع المرأة التي من جانبها تدون رسالتها وهذا النسق يكونُ متبعاً في العلاقة القائمة بين الشاب الذي راسل أمه والمرأة التي تخاطبُ أخاها في رسالتها.
شخصيات عالقة
إضافة إلى التغرب والمعاناة والوحدة تشتركُ شخصيات هدى بركات في التعري من اسم العلم بمعنى تعومُ في فضاء النص بدون علامات، فبرأي رولان بارت أنَّ اسم العلم يقدمُ نفسه للإستكشاف وفك الشفرة، فبالتالي لا معلومات عن الشخصيات عدا ما يتوفر في طيات الرسائل الخمسة التي تتوالي متتابعة، وتحتفظُ كل رسالة بخصوصيتها في الموضوع بحيثُ يُخيل إليك بأنَّ ما يستعادُ في سياقها عبارة عن فيلم سينمائي.
يُذكر أنَّ الكاتب الإنكليزي إيان ماكيوان يرى تماثلاً بين الرواية القصيرة والسيناريو ويحددُ المشتركات بين الاثنين في مقال ترجمته لطفية الدليمي. فالإقتصاد اللغوي ونحت الشخصيات الفاعلة في الحلقات السردية، ولو في حدود ضيقة من مُتطلبات الرواية القصيرة بنظر ماكيوان، وهذا ما تمتازُ به "بريد الليل" في تشيكل مقوماتها الداعمة لخطاب النص. وتستشفُ في البنية المكانية صورة للمستوى النفسي لدى الشخصيات العالقة في الفنادق والمطار والشوارع.
ضف إلى ذلك فإنَّ ما تتوخاه هذه الشخصياتُ من سرد الذكريات ليست إستعادة فردوس الطفولة لأنَّ ماضي هؤلاء ليس أقل تأزماً من الحاضر. فالشخصية الأولى تريدُ كتابة رسالة وهمية لأمها ومن ثمَّ يصل خبر كارثة حلّت بالقرية جرّاء إنهيار السد إذاً لا يعرف كاتب الرسالة الأولى مصير أهله غير أنَّ اللحظة التي وضعته فيها الأم داخل القطار المنطلق نحو العاصمة ماثلة في ذهنه ويبوحُ لحبيبته الغائبة بأنَّ مغيب ذاك اليوم بقي في رأسه، ويمضي في الكشف عن ميوله المتقلبة نتيجة الإقصاء من وسطه ونشأته بيعداً عن ظل الأب. 

novel
عزلة الشخصيات وتوغلها في دهاليز الذاكرة 

وما يتحسر عليه هو رحيل الأم قبل كشف الحساب والإنتقام منها. تتضارب المشاعر لدى صاحب الرسالة الأولى إذ يتأرجح بين الحب والغيرة من جهة وبين والإنتقام والهروب من جهة أخرى، فهو يصنف ضمن المعارضين دون أن يكون منهم ويمل من دفء حبيبته وما أن تفارقه حتى يشتاق إليها. لا يسعده إن تصورها حزينة عليه ويؤلمهُ إذ يساروه الشعور بأنهَّ لا مكان له بحياتها. فالعلاقة المتوترة مع الأم تمتد إلى صاحب الرسالة الثالثة حيثُ يحملها مسؤولية إستفحال قسوة الأب وتعاظم عذاباته، مع ذلك يعترفُ الابنُ الذي انقلب من الضحية إلى الجلاد، وتحول من الموالاة إلى المعارضة بفعل الصدفة بأنَّ أجمل ذكرياته هي بصقتها على وجهه.
لافتاً إلى أنَّ مشهد بكاء امرأة في المطار أوحي بكتابة رسالته فهو ينبشُ في كيس القمامة بحثاً عن أجزاء الورقة التي مزقتها المرأةُ، والمستغربُ أنَّ الأخيرة تعودُ لإستعادة ما رمت به للتو في القمامة دون أن تجد لها أثراً. وينم ما تحبرهُ صاحبة الرسالة الرابعة عن وجود التشنج بينها وبين أمها لدرجة تتهم بقتل الأخيرة ويريدُ الأخ السجين إنتقاما من أختها بناءً على فرضية الجريمة.
التناغم
يستمدُ العمل الروائي أبعاده الجمالية من التناغم بين وحداته، وفي ذلك يتقاطع مع فن الموسيقي، ومن هنا نفهمُ مغزى ما قاله الفنان الفلسطيني وسام جبران بأنَّ الرواية عمل سيمفوني بإمتياز، فإن تنظيم "بريد الليل" على المستوى البنائي قريب من العمل الموسيقي لجهة تكرار الإيماءة إلى الحافز لكتابة الرسالة إذ ما يكتبهُ صاحب الرسالة الأولى يكونُ نواةً لما يليها من الرسائل، ولولا العثور على الرسالة القابعة في الفندق أو في البار أو في بهو المطار لما شرعت الشخصيات بالبوح عن هواجسها والإسترداد إلى الأزمنة الغابرة. 
إذا كانت آلة السرد تتحركُ في روايات باتريك موديانو وتسدُ الثغرات في حلقاتها من خلال الصور الفوتوغرافية أو دليل الهاتف أو قصاصات الصحف والمجلات، فإنَّ فحوى الرسالة يكون عاملاً لإنتظام خط السرد في رواية هدى بركات. 
يشارُ إلى أنَّ عزلة شخصيات "بريد الليل" وتوغلها في دهاليز الذاكرة والتقابل بين ملامح الأمكنة في أزمنة مختلفة آليات متقاربة لما تمرُ عليك لدى مؤلف "أزاهير الخراب" فإنَّ أمل المرأة التي تعشق صوت عبدالحليم وأفلام الزمن الجميل برؤية صاحب الرسالة الأولى يذكرك بكلام موديانو "سنجدُ أولئك الذين نبحثُ عنهم إذا كانوا أحياءً في مكان ما".
ما يجبُ الإشارة إليه أنَّ هذا النص الروائي ينفتحُ قوسه على عدة ثيمات منها الغربة والعنف السياسي والأسري والمجتمعي والحب والحنين، كل ذلك مبثوث في تضاعيف العمل مع التمليح إلى الإزدواجية سواء على المستوى السياسي أو الديني. ومن الملاحظ بأنَّ هدى بركات لا تغادرُ موقعها المحايد في القسم الأخير من الرواية إذ يكملُ البوسطجي المتكلم بضمير الأول السلسلة المتتالية. فهو يرتب الرسائل المتراكمة مع إضافة توضحيات لكل مغلف قبل أن يداهمه الموت.