بسمة عبدالعزيز تحلل خطابات الأزهر

كتاب "سطوة النص.. خطاب الأزهر وأزمة الحكم" يدرس خطاب المؤسّسات الدينية الرسميّة ووظائفه في وقت الأزمات السياسية العاصفة. 
لا أزعُم أنّ إنشاء هُويّة ما هو أمرٌ محدودٌ بإطار زمني، بل عملية مُتواصِلة ومُتراكِمة عبر السنوات والقرون
اقتصار دور الأزهر على الجانب الديني أمر يُنظر له بعين الاعتبار

تُشَكِّلُ المؤسّسات الدينية الرسمِيّة سلطة راسخة في المجتمع المصريّ، إذ تحظى بمكانة تاريخيّة لدى الجماهير، يدعمها ما للدين في حدّ ذاته من أثر واضح في مُختَلَف مناحي الحياة. ومن المفهوم أن للأزهر حقّ التمثيل الرسميّ في المَحافِل والمُناسبات؛ دينية وغير دينية، داخلية وخارجيّة، كما أنّ الخطاب الصادر عنه هو الخطاب المُعترَف به من الدولة بطبيعة الحال، وبناءً على هذا وذاك فإنّه يلعب دورًا مهمًّا، تتبلور من خلاله عملية الهيمنة التي تمارسها السلطة في المُجتمعات. 
انطلاقا من هذه المكانة التي يحتلها الدين ومؤسسته الرسمية في مصر تدرس الكاتبة والباحثة د.بسمة عبدالعزيز في كتابها "سطوة النص.. خطاب الأزهر وأزمة الحكم" خطاب المؤسّسات الدينية الرسميّة ووظائفه في وقت الأزمات السياسية العاصفة. ويُعالج - تحديدًا - خطاب مؤسسة الأزهر وثيق الصلة بالأزمة العاصفة التي اجتازتها مصر في الفترة من يونيو/حزيران إلى أغسطس/آب 2013.
تقول عبدالعزيز: ربما كانت الفترة التي أعقبت ثورة 25 يناير 2011، من أكثر الفترات زخمًا على الساحة الداخلية المِصرية في السنوات الأخيرة. تنحى الرئيس مبارك، وتولّى المجلس العسكريّ الحكم لما جاوز العام بقليل، ثم تولّى مرشح جماعة الإخوان المسلمين رئاسة الجمهورية في يونيو/حزيران 2012 بمقتضى أول اقتراع رسميّ يُجرى بعد ثورة 25 يناير؛ ليصبح بذلك أول رئيس مدنيّ مُنتخب. 
خلال أشهر من تصدُّر جماعة الإخوان المسلمين المشهد، اشتعل صراعٌ سياسي ضمَّ مؤسسات كبرى في الدولة، وجماعات قوة متباينة المصالح، وقد تعمّق واستفحل حتى وصلت الأزمة إلى ذروتها مُنتصف عام 2013 وسط تذمّر شعبي واسع النطاق، تبلور هدفه في إقصاء الجماعة عن الحكم، وقد أخذت المؤسسة العسكرية على عاتقها مُهمة عَزل الرئيس في 3 يوليو/تموز 2013، ومن ثمّ لجأ مؤيّدوه إلى أشكال مُتباينة من الاحتجاج، وتوالت الأحداث إلى أن تمّ فضّ أكبر اعتصام قاموا به في أغسطس/آب من العام نفسه، وهو الفعل الذي مثل بداية عودة مؤسسات الدولة الأمنية لفرض سيطرتها على الأوضاع. كانت المؤسسة الدينية حاضرة في هذا المشهد بخطابها، وقد اخترت الفترة الزمنية التي تبدأ من مطلع شهر يونيو/حزيران عام 2013، وتنتهي بنهاية شهر أغسطس/آب من العام نفسه، لدراسة هذا الخطاب، كونها اكتظّت بأحداث جسام، وحفلت بمواقف حاسمة لا يمكن تجاهلها لشيخ ومشيخة الأزهر. 

الأزهر هو إحدى المؤسسات الرسمية في الدولة، له مُوازَنة مُستقطَعة منها، ومن ثمّ لا يمكن اعتباره كيانًا تامّ الاستقلال بما يكفُل له الاضطلاع بدوره دون التَعَرُّض إلى بعض الضغوط

وتضيف: حَقَّقَت الأشهرُ الثلاثة المختارة ميزة مهمّة، هي وَحدة الحدث الذي ربط بين النصوص على نحو ما، ووفّر لها التماسُك والتسَلسُل، وأهداها منطقًا مشتركًا وبناءً متينًا، وقد وضعت أمام ناظريّ نظرية سكولون التي يتعامل فيها مع الخطاب بأكمله باعتباره "أثرًا للتفاعل الاجتماعي"،  ورأيت الفرصة سانحة للتعامل مع مادة مكثّفة خرجت إلى الوجود في فترة زمنية قصيرة نسبيًّا، كنتاج مُباشر لتفاعلات اجتماعية متواصلة بين أطراف متعددة. بدا الأمر على هذا المنوال مثاليًّا للكشف عن أدوار الفاعلين، وطبيعة التفاعلات الكائنة بينهم، وكذلك عن أنواع الاستجابات التي يقدّمها خطابٌ في مواجهة آخر؛ مؤيّدًا كان أو مضادًّا، وقد قدّرت أن العوامل والمؤثرات التي أحاطت بخطاب شيخ ومشيخة الأزهر؛ سواء ارتبطت بظرف سياسي بعينه، أو بعَلاقات القوى الكائنة وموازينها في المجتمع، أو بمواقف السلطة وأدواتها وخطابها المقابل، أو حتى بعلاقات القوى وموازينها داخل المؤسسة الدينية ذاتها، قد لعبت دورًا مهمّا ليس فقط في تشكيل خطاب المؤسسة الدينية، وبلورته، وإخراجه في صيغته النهائية المطروحة للمتلقين، بل في تشكيل وعي المجتمع والأفراد، وتهيّأتهم لقبول الخطاب ذاته إطارًا ومحتوى، وعنى هذا الأمر مزيدًا من الاهتمام بالسياق الذي يحتضن عملية التفاعل الخطابي بين المؤسسة الدينية، والأطراف المشاركة كافّة في الحدث.
وتوضح عبدالعزيز أن ثمة محورين أساسيين عمدت إلى التركيز عليهما، أولهما يتعلّق بتتبع عملية إنشاء الهُويّة، والثاني يختصّ بالكشف عن علاقات السلطة، ويشتمل كل محور منهما على بعض النقاط المُهمة. يهدف المحور الأول إلى استيضاح معالم الهُويّة التي يتمّ تأسيسها من خلال خطاب شيخ ومشيخة الأزهر، وتحديد الشواهد التي أسهمت في بنائها، وبيان مدى ثباتها واستقرارها عبر المواقف الخطابية المتبانية، كما يهدف إلى بحث نجاح أو فشل المؤسسة الدينية في إرساء تلك الهُويّة؛ لا من خلال قياس الصورة التي ترسّخت في وعي المتلقي ـ إذ هو أمر يحتاج بدوره إلى دراسة نوعية مختلفة - بل من خلال الكشف عن مدى التوافق الهوياتيّ الذي أمكن تحقيقه داخل النصوص، ورصد التناقضات الداخلية ومواضع التصادم بين هُويّة وأخرى، إضافة إلى إلقاء الضوء وإن بشكل عابر على عملية الصراع على التمثيل التي تصوّر حالًا من الدفاع عن الهُويّة؛ إذ يتنافس طرفان يتبنيان خطابًا واحدًا، كلٌ من أجل إثبات أحقّيته في أن ينوب عن سلطة أعلى.
وترى أن ثمة علاقات متشابكة بين الأزهر الذي يمثّل المؤسّسة الدينية الرسميّة من ناحية، والسلطة السياسية الحاكمة، وجماعات التأييد والمُعارَضة من ناحية أخرى، ومن ثم عمدت في المحور الخاص بعلاقات السلطة إلى الكشف عما أنجزته الأدوات اللغوية لتبرير مواقف وانحيازات المؤسسة الدينية، وإلى رصد وتحليل انعكاسات صراع السلطة وأزمة الحكم على الخطاب. حاولت - أيضًا - تحديد الشواهد التي أشارت إلى موقع المؤسسة الدينية من السلطة السياسية، وعلاقتها بها، سواء كانت ذات طابع نِدّي، أو خاضع، أو مُسيطر، كما بحثت عن الأساليب البلاغية المُستخدمة لدعم خطاب السلطة، أو على النقيض؛ للتراجُع عن مساندتها، أو اتخاذ موقف مُناهِض لها، وقد تتبّعت الشواهد الدالّة على عملية إقصاءٍ وتهميش قد تمارسها السلطة السياسية تجاه المؤسسة الدينية، أو تمارسها المؤسّسة الدينية تجاه جماعات أخرى.
تخصص عبدالعزيز فصلًا من الكتاب للأدوار والوظائف الذي قامت بها المؤسّسة الدينية عبر خطابها ومن ثمّ لعملية إنشاءِ الهُويّة، وتقول: "لا أزعُم أنّ إنشاء هُويّة ما هو أمرٌ محدودٌ بإطار زمني، بل عملية مُتواصِلة ومُتراكِمة عبر السنوات والقرون". 
وتتابع: أمكن تمييز عدّة أدوار وهُويّات للمؤسسة الدينية في الفترة الزمنية التي عملت على مطالعة خطابها فيها، حيث توالت الأحداث سِراعًا، ووصلت أزمة حكم جماعة الإخوان المسلمين إلى ذروتها في شهر يونيو/حزيران 2013، ومع تَبَلوُر الموقف السياسي، اتخذ الأزهر مَوقعًا ربما لاح جديدًا بعض الشيء للمتابعين، لا لحداثة توظيفِ خطابه في الشأن السياسيّ بل للانحياز الواضح والصريح الذي أبداه لأحد أطراف الصراع، ومنذ إصداره لفتوى أباحت الخروج على الحاكم في 9 يونيو/حزيران بالمُناقضة لإحدى فتاواه السابقة، ثمّ وقوفه في الثالث من يوليو/تموز مُعلِنًا تأييده لعزل رئيس الجمهورية، بدا أن ثمّة دورًا سياسيًا أكبر من المعتاد يتشكَّل، ويتمُّ تكريسُ جزءٍ من خطاب المؤسّسة الدينية لإرسائه وتعزيزه. لقد بدت هُويّة اللاعب السياسيّ أبرز الهُويّات في نِسبَة كبيرة من الخُطب والبيانات، حيث قام الأزهر بدورٍ فاعلٍ على ساحة الصِراع والتفاوُض، وإلى جانبها ظهرت الهُويّة القوميّة التي توَجَّهَت المؤسسة الدينية عبرها إلى الشعب المصري والمواطنين، وأخيرًا جاءت الهُويّة الدينية التي أدّى الأزهر من خلالها دوره المرجعيّ وظهر في موقع القاضي العلوي، وإذا كان من غير المنطقيّ ولا المُتاح أن تتخلّى المؤسّسة الدينية عن هُويّتها الدينية لصالِح أداء دور سياسي ما، إذ هي مَوطن قوّتها وتأثيرها ومَبعَثَ سيطرتها، فإنّ الجمع بين الهُويّتين أو الدورين في آن ربما أخلّ إلى حدٍّ بعيد بمصداقيةِ خطابها، وهو مبحَث جدُر اختباره.
وتوضح عبدالعزيز: جاء نصُّ حديث شيخ الأزهر بعد إعلان تسليم السلطة لعمر سليمان كما يأتي: "... قبل الأمس كان لهم مبرر شرعي.. ولكنّ نفس الأزهر الذي قال ذلك.. يقول للشباب لا اليوم حرام وجودك في المظاهرات واليوم المظاهرات حرام لأنّها تعدّ خروجا على الدولة وعلى النظام..".  

الأزهر
بسمة عبدالعزيز

أمّا نصّ حديثه بشأن دعوة بعض جماعات المُعارضة إلى العِصيان المدني، فقد جاء مُكتظًا بالأحاديث النبوية والآيات القرآنية، حول عدم جواز الكَفّ عن العمل، حيث ربط العمل بالإيمان والعقيدة، وجَعَلَه من لوازمهما، وشدَّد على كونه فريضة، ليوحي إلى المتلقّي بأن العصيان المدنيّ لهو أمر مرفوض تمامًا من الناحية الدينية. لقد دفع الشيخ الطيّب في هذا الإطار بأنّه: "... لا يكاد يُذكر الإيمان في القرآن إلا مقرونًا بالعمل الصالح.."، حيث استشهد بجزءٍ من سورة العصر: "... إلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ..."، واستطرد مبيّنًا مَوقع العمل من الدين ورأي العلماء فيه: "... حتّى أدخله جمهور علمائنا في مفهوم الإيمان الكامل..."، و"... كفى أنّ الله - تعالى - في معظم آيات الكتاب قرن العمل بالإيمان والعقيدة..."، ثم عاد ليستشهد بالحديث النبوي: "ليس الإيمان بالتمنّي، ولكن ما وقر في القلب وصدّقه العمل"، ثم بآية من سورة الزلزلة: "فمَن يَعمَل مِثقَالَ ذَرةٍ خيرًا يرَه ومَن يعمَل مِثقالَ ذرةٍ شرًا يرَه"، وكذلك بآية من سورة التوبة: "وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ ورَسُولُهُ والْمُؤْمنونَ".
وتضيف عبدالعزيز "يُلاحَظ أنّ الاستشهادات الدينية التي جاء بها الشيخ الطيّب هي استشهادات عامة، لا يستقيم توظيفها في هذا السياق، كما يُلاحَظ أنّ مفهوم العمل لم يرد في أيّ منها بما يُفَصِّل نوعيّته وكنهه، أو بما يتيح للمتلقّي تصنيفه، فعمل "الصالحات" ليس مُرادفًا على سبيل المثال لممارسة الوظيفة الحكومية، بل قد يكون العمل الصالح في حال وقوع ظلم أو فساد هو الامتناع عن المشاركة فيه، ومن ثمّ قد يصبح العصيان المدني في بعض الأحوال بمنزلة عمل صالح إذا ما رُجيَ منه إصلاح الوضع السياسيّ السيّئ. 
على كل حال استخدم الشيخ الطيب استشهادات مكثفة لتدعيم خطابه من المنظور الديني، فيما جرى تشويه صورة الآخرين الداعين إلى العصيان: "... فلا تستمعوا لدعاة الهدم وتعطيل العمل والفناء، من بعض المغرَّر بهم أو الأدعياء، الذين ينادونكم للتوقّف عن العمل..."، بحيث أصبح خطابهم محلَّ شكّ وتَوَجُّس من المتلقّي الذي صار مُستمالًا إلى ناحية خطاب المؤسسة الدينية.
وتؤكد بسمة عبدالعزيز أنه لا خِلاف على أنّ الأزهر هو إحدى المؤسسات الرسمية في الدولة، له مُوازَنة مُستقطَعة منها، ومن ثمّ لا يمكن اعتباره كيانًا تامّ الاستقلال بما يكفُل له الاضطلاع بدوره دون التَعَرُّض إلى بعض الضغوط، ويشير هذا الوضع إلى ما للنظام القديم من أهمية؛ إذ اعتمد الأزهر في فترات من تاريخه على فكرة الوقف التي سمحت له بالبقاء بعيدًا عن سيطرة السلطة، وهو أمر ربّما يُسهِم في تحجيم محاولات توظيف خِطابه سياسيًّا لصالِح مؤسّسة الحكم. ربّما ينزع الدور السياسي الذي يمارسه الأزهر تلك الأرضية الشعبية التي طالما حازها بصفته مؤسّسة دينية كبرى، ويشير كتّابٌ ومفكّرون في هذا الصدد إلى خسارة بعض علمائه مصداقيتهم، كون خطابهم صار خاضعًا للسلطة وملوّنًا بمواقفها وتوجّهاتها؛ إذ تحوّل الأزهر ذاته إلى ما يشبه المؤسّسة الحزبية، وبِناءً على هذا وذاك فإنّ اقتصار دور الأزهر على الجانب الديني أمر يُنظر له بعين الاعتبار.