بغداد والقوة الناعمة ازاء كردستان

انشغال اربيل بحل هذا التهديد الاقتصادي عليها سيلهيها عن التركيز على حل المشاكل السياسية العالقة مع بغداد وهي كثيرة.

تشكلت حكومة السيد السوداني في تشرين الاول من عام 2022، سبقتها باشهر مفاوضات بين الاطراف السياسية المشكلة لها، ادت الى اتفاقيات وتفاهمات وجداول توقيت لتنفيذ تلك الاتفاقيات. وبعدها بخمسة اشهر اصدرت محكمة باريس الدولية قرارها ايقاف تصدير نفط كردستان عبر ميناء جيهان التركي، لتمتثل تركيا للقرار مباشرة دون اعتراض، اعقب ذلك اتصال هاتفي اجراه ماكرون مع السوداني، ليقوم الاخير بعدها بأيام بزيارة الى تركيا استمرت يومان.

لن نلجأ هنا لنظرية المؤامرة في ان نقول بان كل ما ذكرناه آنفا كان بتنسيق دولي واقليمي وعراقي، ولن ندخل في متاهات كلمة "لو" التي لا تأثير لها في عالم السياسة، فما حصل قد حصل وانتهى الامر، لكن ما اعقب ذلك من احداث وتطورات، وما نراه حاليا من تعاطي حكومة بغداد مع ما كل يخص اقليم كردستان، يشي بان هناك ثمة محاولات للضغط على اقليم كردستان، وهي مستمرة ولن تقف عند حدود.

تؤكد بغداد دائما على التزامها بالاتفاقيات التي ابرمت بين الاطراف المشاركة في الحكومة، خاصة تلك المتعلقة بالمشاكل العالقة بين اقليم كردستان وبغداد، من قبيل مشكلة المناطق المتنازع عليها والمادة 140 الدستورية، وقانون النفط والغاز، والتعداد العام للسكان. وتؤكد التزامها بالتوقيتات المتفق عليها لحلها. لكن ما يحصل على ارض الواقع هو عكس ما تؤكد عليها بغداد، فقد جرى العمل على تسويف جميع التوقيتات المتفق عليها لسبب او لآخر، وحتى اتفاقية شنكال التي تم الاتفاق عليها من قبل حكومتي بغداد واربيل منذ ولاية الكاظمي لم يتم تنفيذ اي بند فيها لغاية اليوم، وبالطبع لا توجد مواد قانونية تجبر اية اطراف مشاركة في تشكيل حكومة على الالتزام بتعهدات وتوقيتات اتفقت عليها فيما بينها، سوى ان تقرر الاطراف المتضررة منها الانسحاب من التشكيلة الحكومية وحلها. لكن في الحالة العراقية فان هذا الامر اشبه بالمستحيل لأسباب عديدة منها:

* كل طرف مشارك في الحكومة له توجهات تختلف عن توجهات شركائه، وطموحات تختلف عن طموحات بقية الاطراف.. بعضها شخصي والاخر حزبي، وبالتالي لا توجد توجهات جامعة للأطراف المشكلة للحكومة، تستطيع على ضوئها الانسحاب من الحكومة.

* نجاح الاغلبية المشاركة بالحكومة والمتمثلة بالاطار التنسيقي من تحشيد اطراف معارضة لقوى متآلفة معها في التشكيلة الحكومية، بحيث ان اي اعتراض من تلك القوى على توجهات الاطار ستنهي والى الابد الحياة السياسية لتلك القوى وتخرجها من العملية السياسية بشكل كامل.

* ان الحكومة الحالية هي نتاج توازنات وتوافقات اقليمية ودولية، وبالتالي فان انسحاب اي طرف منها سيؤدي الى اخلال بتلك التوافقات والتوازنات، ما يصعب الانسحاب من التشكيلة الحكومية بقرار داخلي من اطرافها، وهو ما يظهر عمق الدور الاقليمي والدولي في العراق، فما يحدث في العراق لا يجري حسب ما تشتهي الاطراف السياسية العراقية، بل بما تشتهي القوى الاقليمية والدولية.

اضافة الى ما سبق فهناك اسباب اخرى كثيرة تمنع الاطراف المشاركة في التشكيلة الحكومية من الانسحاب وحل الحكومة، بل وتمنعها حتى من التهديد بالانسحاب. وبالنسبة لإقليم كردستان فهو يفتقر حاليا لأوراق ضغط على بغداد خاصة بعد قرار محكمة باريس واستلام بغداد لملف نفط كردستان.

عندما نتحدث عن حكومات بغداد فأننا لا نعني بذلك شخصا من يترأسها، وانما نقصد التوجه العام في بغداد، وهو لا ينحصر في توجهات الاطراف المشكلة لها فقط، بل تتجاوزه الى توجهات قوى موجودة في الظل هي من تسيطر على توجه دفة الاحداث، وهي عبارة عن اذرع لقوى اقليمية تتحرك حسب اجنداتها. لذلك فان الظروف التي تمر بها المنطقة ككل حاليا والهدوء النسبي في العلاقات بين ايران من جهة واميركا والدول العربية من جهة اخرى، لها دور كبير على الوضع السياسي داخل العراق. لذلك نرى هدوءا نسبيا في العملية السياسية والعلاقات بين المكونات العراقية، وهو ما دفع بغداد للتعامل مع اقليم كردستان اعتمادا على مبدا القوة الناعمة، بعيدا عن لغة التهديد الوعيد الذي كنا نشهدها عند بعض الحكومات الاتحادية السابقة. لكن ذلك لا يعني ان هذه السياسة هي اقل خطورة من الاساليب السابقة لحكومات بغداد. فان كانت المنظومة السياسية الحالية في بغداد لا تثير مشاكل جديدة لإقليم كردستان، الا انها تركز على المناطق الرخوة في بنية الاقليم لتتحرك من خلالها، وتتخذها اوراق ضغط على الاقليم خاصة في الجانب الاقتصادي. وان اخطر ما سيواجه كردستان خلال السنوات الثلاث القادمة هو ملف مستحقات الاقليم ضمن الموازنة الاتحادية.

فرغم تأكيد بغداد على ان اقليم كردستان قد اوفى بكل التزاماته تجاه بغداد، غير ان ما نراه على ارض الواقع هو تأخير متعمد لوصول مستحقات كردستان من الموازنة ومن ضمنها رواتب موظفيها، واذا ما اصبح هذا التأخير سنة تسير عليها حكومة بغداد للثلاث سنوات القادمة فان تأثيرات هذا التأخير على الاقليم لن تقل عن تأثير اي حصار اقتصادي متعمد عليه، فهو سيبطئ من النشاط الاقتصادي في كردستان، ويخلق حاله من عدم الثقة بمستقبل سوق الاقليم من قبل المستهلك والشركات العاملة فيه، ويؤدي الى عزوف الشركات الاجنبية عن الاستثمار فيه، وهو ما سيؤدي الى ركود اقتصادي وتبعات سلبية مدمرة لن ينفع معها اي خطط اقتصادية تضعها حكومة الاقليم، خاصة وان الاقليم قد فقد الان عامل الاعتماد على تصدير نفطه بشكل مستقل كما كان يفعل في الازمات السابقة.

لذلك فان المفاوضات بين اربيل وبغداد، التي تبادر اربيل دائما بإجرائها، يجب ان تتمحور في حل هذه المشكلة وبشكل عاجل، لان انشغال اربيل بحل هذا التهديد الاقتصادي عليها سيلهيها عن التركيز على حل المشاكل السياسية العالقة مع بغداد وهي كثيرة.