بلاد الثلوج: دوامة الموت والحب

الطبيعة هي عنصر رئيسي في بناء رواية كاواباتا، حيث يتحولُ وصف مشاهد الطبيعة إلى خلفية لأحداث الرواية.
الكاتب الياباني يولي اهتماماً كبيراً بالحاسة البصرية على امتداد الرواية
السرد يسترسل في ملاحقة تطور العلاقات القائمة بين الشخصيات

مع أن الحُبَّ مُختلف في دلالاته وما يَختزنه من الرغبة للحياة والديمومة عن مفهوم الموت وما يحمله من معاني الغياب وعدم الفاعلية، لكن ما يجمع بين الاثنين هو الغموض وغياب إمكانيات التخطي، لذلك ورد في نشيد الأنشاد أن الحب عنيف كالموت، كما يصف إبن عربي أيضا تجربة الحب بموت صغير، ويتداول في اللغة الفرنسية مُفردة "الموت الأصغر" للتعبير عن النشوة الإيروتيكية، ومن جانبها شبهت الشاعرة الاميركية إيميلي ديكينسون تجربة الإخفاق في الحب بالموت، الأمر الذي يبينُ التشابك بين الحالتين، وكأن الموت يشتغل في الحب كما يشتغلُ النحلُ في الخلية. 
وتجدُ تمثلات لتقاطع التجربتين في نصوص أدبية، إذ تبدوُ رغبة الأدباء اليابانيين لهذا الموضوع أكثر وضوحاً لاسيما لدى يوكيو مشيما وهوراكي موراكامي وياسوناري كاواباتا، فالأخير تناولُ في روايتهُ المعنونة بـ "بلاد الثوج" ترجمة لطيفة الدليمي، حالة التيه في الحب، ومطاردة الموت للشخصياتِ التي سيظلُ حضورها باهتاً بإستثناء شيمامورا وكوماكو لا يذكرُ الراوي الأخيرة باسمها في مطلع الرواية، بل سيشيرُ إليها بالمرأة أو الفتاة، ويتطلبُ أمر اكتشاف هوية هذه الفتاة المضي في السرد، ومتابعة الحوار بين الشخصيتين الأساسيتين. 
يُذكر أن الطبيعة هي عنصر رئيسي في بناء هذا العمل، ويتحولُ وصف مشاهد الطبيعة إلى خلفية لأحداث الرواية، إضافة إلى ما يُفصل فيه الراوي من وصف سحنة وملامح البطلة من خلال استبطان شخصية شيمامورا، كما يميلُ إلى التركيز على دور الحاسة السمعية في تجييش المشاعر وإيقاظ الذكريات، إذ عندما يُسْمعُ صوت يوكو وهي تنادي صبياً يلوح لها يعودُ بك الساردُ إلى اللحظة التي جمعت شيمامورا بالأخيرة على متن قطار منطلق نحو بلاد الثلوج ويشبهُ الصوت بصدى حبِ سامِ يتردد في المسامع.

في "بلاد الثلوج" تكثرُ  الإحالة إلى ما يتمسكُ به الشعب الياباني من أزياء تقليدية مثل ثوب  "كيمونور" وحزام الأوبي، وآلة "السامسين" والأغاني الشعبية وعملية نسج قطع قماش الشيجمي في شهر يناير

رحلة
تبدأُ حركة السردِ برحلة نحو بلاد الثلوج إذ تتالى مشاهدُ طبيعية أمام عينى شيمامورا، وهو ينظرُ إلى المباني المنخفضة، وتتواري نصاعة الثلج بفعل إنسحاب ضوء النهار وحلول الليل، ومن ثُم ينصرف الراوي إلى مراقبة الحوار بين يوكو وناظر المحطة حيثُ يتبينُ أن أخا الفتاة يشتغلُ في المحطةِ، وينال إعجاب العاملين على رغم صغر سنه، وفي أثناء ذلك لا تتوقف الإشارة إلى برودة الجو وحدوث الإنهيارات الثلجية، وينمُ كلام الفتاة عن خوفها وقلقها على الأخ الصغير، إذ تتساءلُ عن مشربه وملبسه، إلى ذلك يمتوضعُ المتلقي موقع شيمامورا مرة أُخرى لرؤية رجل عليل تتعهدُ برعايته الفتاةُ كما يتوغلُ الراوي فيما يجولُ بخلد الشخصية الأساسية وتصوراتها عن يوكو التي ترافق ذاك الشخص، إذ يزعمُ شيماموار أن الفتاة ليست متزوجةً مُتتبعاً تصرفاتها مع الرجل السقيم ويبهره إنعكاسُ صورة الفتاة في المرآة ممتزجةً مع طبيعة تتشحُ بظلام الليل.
هكذا يولي المؤلف اهتماماً كبيراً بالحاسة البصرية على امتداد الرواية، ويسترسلُ السردُ في ملاحقة تطور العلاقات القائمة بين الشخصيات، إذ أن هذه العلاقة تتسمُ بالغموض، وفي هذا لا يحيدُ صاحب "الجميلات النائمات" عن الأسلوب السائد لدى الكتاب اليابانيين، إذ تمرُ شخصيات "بلاد الثلوج" بأوضاع مُختلفة وتوردُ في سياق النص معلومات شحيحة عن ماضيها، كما تتداخل مصائر تلك الشخصيات مع بعضها، الأكثر لا تُذكر الظروف والملابسات التي تعرفتْ فيها شخصية على جوانب من شخصية أُخرى وذلك ما تبين فيما تقوله كوماكو عن شيماموار واصفة إياه بالرجل الغني ينفق بالإسراف وله أسرة، هذا كل ما يلتقطه المتلقي عن خلفية الرجل  الخبير في فن الباليه الذي يسافر إلى بلاد الثلوج لأول مرة فضلاً عما يستعيدهُ شيماموار عن نصحية زوجته له من تكاثر العث في بعض المواسيم.  

The Japanese novel
تتداخل مصائر تلك الشخصيات 

ما يشبه الحب
ما يبدو واضحاً بالنسبة للمتلقي أن شخصية شيماموار يعيشُ حياة عاطفية متضاربة وهذا الجانب هو ما يكون بمثابة حالة مُلغزة لاسيما بعدما تخيبُ الأحداث أفق توقع القاريء عن إدامة التواصل بين يوكو وشيما موار بناءَ على ما يوحي به سلوك الأخير وإستغوار الراوي في كنه أفكاره، إذ تختفي يوكو ومن ترافقه دون معرفة التفاصيل عن الاثنين إلى أن تنعقد وحدات السرد في محور جديد وهو علاقة شيمامورا مع فتاة جيشا تعملُ مغنية وراقصة في ينابيع المياه الحارة، ومن ثُمَّ يكتشفُ الرجل الثري بأن كوماكو ما اختار هذا العمل إلا لتسديد تكاليف علاج خطيبها، وبذلك تتضحُ وظيفة شخصية الرجل العليل وهو ابنُ معلمة الموسيقى التي كانت تقيم كوماكو في بيتها. 
كما تتذكر البطلة لحظة لقائها بالرجل السقيم في طوكيو الذي كان مولعاً بالميكانيكا، ويشار في هذا الإطار إلى أن ياسوناري لا يقدمُ معلومات عن شخصيات الرواية دفعة واحدة إنما يكون الأمر بالتدرج ويتركُ الحلقة مفتوحة لأجزاء لاحقة، وهذا ما يتبناهُ نحت شخصية كوماكو إذ يعرفُ شيمامورا من المدلكة العمياة الظروف التي ساقت بالبطلة إلى أن تصبح فتاة جيشا تقيم الحفلات.
كما أنَّ كوماكو من جانبها تسردُ جانبا من حياة صديقتها كيكويو وفشل زواجها وتسرعها في رفض طلب رجل متيم بها، أخيراً تعود إلى موطنها، تاركة إقليم الثلوج وما قدمه لها من فرصة نادرة.
هكذا تتوالي أقسام الرواية، تتناوب في تجاوبفها قصة فتيات جيشا ومتابعة تحولات الطبيعة، وما يلفت النظر في هذا التتابع السردي هو تقلبات شيمامورا الذي يشفق على كوماكو وتضحياتها مبديا إعجابه بطيبتها فهي بدورها تتمسك به كأنها غير مستعدة لخسارته بعد ما يغيبُ الموت معلمة الموسيقى وابنها لكن على رغم وجود المشاعر الحميمة بين الاثنين، فإن البطل يعترفُ بأنه سيقع صريع هوى يوكو وما يراه في عينها أكثر جاذبية وعمقا، يُدرَكُ مما يُعرض في هذا العمل أن مصير يوكو وكوماكو غير منفصلين، وقعت كلتاهما في حب ابن معلمة الموسيقى كما عانت الاثنتان آلام الفراق، وما يضاعف من الطابع التراجيدى في "بلاد الثلوج" هو موت يوكو حرقاً كما يلتحف غموض مصير شيمامورا.
الأصالة
تكثرُ  في "بلاد الثلوج" الإحالة إلى ما يتمسكُ به الشعب الياباني من أزياء تقليدية مثل ثوب  "كيمونور" وحزام الأوبي، وآلة "السامسين" والأغاني الشعبية وعملية نسج قطع قماش الشيجمي في شهر كانون الثاني (يناير) إضافة إلى إيراد أسماء الأعشاب الخاصة باليابانيين وفن "النو" المسرحي وفي ذلك يسيرُ كاواباتا الذي ولد سنة 1899 في "أوساكا" على منوال كبار الروائيين الذين لا يتنكرون لما تتميز بيئتهم من الخصوصية.
ما يجب الإشارة اليه أن كاواباتا حصل على جائزة نوبل سنة 1968 وانتحر بعد أربع سنوات من هذا التاريخ.