بلاغة السمو الصوفي: التنافي النقدي في الخطاب
بقلم: بَلِيغ حَمْدِي إسْمَاعِيل
أخطأ من ظن أن النافذ إلى عوالم الصوفية المختبئة هو محاولة من محاولات الهروب من عوالم أخرى محيطة قد تدفعه دفعا صوب الإحباط والاكتئاب، لأن تأريخ التصوف الإسلامي الضارب في القدم لم يشر إلى هذا الظن الخائب، لكن يظل الولوج إلى أكوان التصوف والصوفية رغم ذلك معادلا وجدانيا لكيانات إنسانية متشظية بالسمو والاعتلاء غير التنافسي، ولأن المتصوف بطبيعته أكثر ميلا للتعامل مع الباطن والجوانب المضمرة والخفية عن المشترك الجمعي، فهو بالضرورة لا يعبأ أو يكترث بالتصارع الاجتماعي لدى أعضاء المجتمع الواحد، الأمر الذي يجعله منفردا على منصة التتويج الروحي .
ولعل سمة السمو ومزية الاعتلاء التي انفرد بهما الصوفي، جعلاه يعزز فرضية بلاغة التعبير والإفراط المثمر تأويليا في الرمزية التي أرهقت النص الصوفي نفسه، وجعلت آليات التلقي أكثر اضطرابا في نفس الوقت، ولا يمكن أن يهرب النقاد العرب عبر رحلة النقد العربي الممتدة من ابن قدامة الجمحي وحتى عصرنا الراهن من حقيقة مفادها أن التصوير المجازي في النصوص الصوفية هي أحد أهم روافد الشعر العربي لاسيما ثورات الشعر الحر وقصيدة النثر .
إن والصورة اللغوية في النص الصوفي بعيدة تمام البعد عن فعل الواقع أو الرصد المنطقي لحركة التاريخ، فإذا كانت الصورة اللفظية تعد لغزاً في ذاته، فإن المعنى في جملته يعد ملغزا يتطلب قدرا طويلا من الوعي لاقتناص تفاصيل تدل على ما يريده الصوفي من نصه. ومن قبيل هذا الضرب اللغوي ما نظمه سلطان العاشقين عمر بن الفارض قائلا:
قلبي يحدثني بأنك متلفي روحي فداك عرفت أم لم تعرفِ .
لم أقض حق هواك إن كنت الذي لم أقض فيه أسىً ومثلي من يفي .
ما لي سوى روحي وباذل نفسه في حب من يهواه ليس بمسرفِ" .
وكعادة أهل السمو والاعتلاء، أعني متصوفة الإسلام، نجد مجمل نصوصهم اللغوية غامضة معظم الوقت والتوصيف، لاسيما وهم يصفون تجربتهم ويتحدثون عن تفاصيلها، وهو ما نلمحه في قصائد ابن الفارض التي تفوح منها الغموض والمدلولات غير المفسرة لمعانيها المقصودة، ومن ذلك قصيدته الأشهر المعروفة بالتائية الكبرى، والتي يقول فيها :
سقتني حميَّا الحبِّ راحة َ مقلتي / وكأسي محيَّا منْ عنِ الحسن جلَّتِ
فأوهمْتُ صَحبي أنّ شُرْبَ شَرَابهِم / بهِ سرَّ سرِّي في انتشائي بنظرة ِ
في هذه القصيدة الشهيرة تنقسم التجربة الصوفية عند عمر بن الفارض إلى ثلاث مراحل رئيسة، هي : مرحلة الفَرْقِ وفيها يصف الشاعر الصوفي حالة التفرقة والتمييز عن محبوبه الذي يخاطبه هو بلغة حب عميقة وواسعة، ومرحلة الاتحاد وفيها يصف الشاعر حالة الوحدة بينه وبين محبوبه، أما المرحلة الأخيرة والمسماة بالجمع فيصف الشاعر فيها حالة الوحدة والاندماج بين ذاته هو وكل الموجودات . ويجتهد جوزيف سكاتولين في رصد لغة الحب في تائية ابن الفارض، حيث يقوم بدراستها دراسة دلالية حيث أشار إلى تعدد الدلالات اللفظية للأصول اللغوية : ( حـ ـ ب ـ ب )، و ( حـ ـ بٌ )، و ( هـ ـ و ـ ى )، و ( و ـ ل ـ ي ) وهي الأصول اللغوية الثابتة التي تشكل مراحلة الثلاث التي سبق سردها .
إذا كان بعض نقاد الأدب العربي حاولوا أن يتعاملوا مع النص الصوفي ـ كونه نصا لغويا ـ كخطاب أدبي، إلا أنهم قد واجهوا ثمة إشكاليات جعلت النص الصوفي أبعد ما يكون من تفكيكه، وجعلت النقاد أنفسهم بمنأى عن تأويل النص الصوفي كخطاب أدبي، وهذه الإشكاليات نجمت عن ظواهر شتى من أبرزها أن النص الصوفي الذي امتاز ببلاغة الصورة وغياب المعنى بعيدا عن رصد الناقد لم يكن محكوما بالنظام اللغوي الذي يشير إلى فرضية العلامة والدال والمدلول التي تم إيفادها إلينا من رواسب المدرسة البنيوية في النقد الأدبي، وأيضا لم يخضع هذا النص إلى أفق التوقعات أو جماليات القراءة التي تم تصديرها إلى نقدنا العربي الأصيل من خلال محاولات هانز روبرت ياوس وفولفجانج إيزر في نظريتهما الموسومة بالتلقي الجمالي .
والشيخ الأكبر محي الدين بن عربي خير مثال وأنموذج للتأكيد على افتراضية صعوبة اقتناص آليات وتقنيات النقد الأدبي لتفاصيل الصورة البلاغية في النص الصوفي، وخصوصا الديوان الأشهر في تاريخ الشعر العربي " ترجمان الأشواق " الذي لايزال طرحا إشكاليا في التلقي، وفي هذا الديوان نسج ( ابن عربي ) قصائد رمزية على طرائق الصوفيين الذين يتغزلون فيها بإنسان، وهم لا يقصدون من وراء ذلك سوى الإشارة إلى معانٍ سامية، وخوفاً من سوء الفهم والإدراك لصنيع ابن عربي في ترجمان أشواقه لجأ إلى وضع شرح للديوان خشية أن يتبادر إلى ذهن العامة فهم خاطئ لا يتناسب وجلال القصائد الصوفية الماتعة .
لاشك أن مدلولات خطاب الصوفي بما يتضمنه من صور بلاغية عصية على التأويل إفراطا في رمزيتها ترفض بالضرورة الرؤية الخارجية للناقد أو المتلقي، لاسيما وأن الخطاب الصوفي تحكمه أحوال ومقامات ليست من طبائع مهارات النقد الأدبي المتداولة، كما أن الصورة البلاغية في النص الصوفي تخضع فقط لحالات الفيض الداخل للمتصوف، وبالقطع من بالغ الصعوبة لدى محترفي النقد إيجاد آلية علمية للتفريق بين الحال أو المقام أو حتى توصيفهما.
حينما حاول نقاد الأدب في استخراج ملامح الرؤية الشعرية لدى المتصوفة وجدوا أن يبحثون عن براهين لفرضيات معدة مسبقا، فوجد هؤلاء أنه من العبث التوغل في إشارات لفظية لمكونات لغوية تمثل النص الذي يظل غائبا وبعيدا عن التأويل المباشر، بل حاول بعض النقاد فهم النص الصوفي وتحليل بلاغة الصورة الشعرية وفق مذهب لغوي شديد المعاصرة هو ما عُرف بأيديولوجيا اللغة، وأشار كل من خضر الأغا في كتابه " ما بعد الكتابة نقد أيديولوجيا اللغة " ( 2008) ، وعبد القادر فيدوح في دراسته الموسومة بـ " سمت النص الصوفي " (2018) إلى أن المقصود بأيديولوجية اللغة هو مذهب اللغة لا اللغة نفسها استطاع عبر صياغته المتماسكة أن يجعل العالم قاطرة تجرها أحصنة اللغة، فتحول النص، وتاليا العالم