بنات العراق.. لَسنَ كما أرادوهنَّ!

اختلف الزَّمن، وتبدلت القوى الفاعلة، والاحتجاجات بالمدن العراقية، الجنوبية والوسطى، حددت مساراً جديداً، أصبح فيه خطورة الاختلاط، في ساحات الاحتجاج وغيرها، مجرد نُكتة، بعد تحطم حاجز الرُّعب الذي فرضته الميليشيات.

لم تدرك القوى الدينية، السياسة منها والفقهية، قيمة الزَّمن وتحولاته، مع أن مَن أدركها قديماً، قال: «لا تكرهوا أولادكم على آثاركم، فإنهم مخلوقون لزمان غير زمانكم» (الشهرستاني، الملل والنّحل). ينسبها الشهرستاني (ت548هـ) لسقراط، وذكرها ابن حمدون (ت562هـ) لأفلاطون: «لا تجبروا أولادكم على آدابكم...» (التَّذكرة الحمدونية)، بينما اشتهرت لعليِّ بن أبي طالب (اغتيل40هـ)، ومع عدم وجودها في متن «نهج البلاغة»، أوردها ابن أبي الحديد (ت656هـ)، ضمن «الحِكم المنسوبة» لعليّ (شرح نهج البلاغة)، وجعلها «لا تقسروا أولادكم...»، وغير الموجود في «النّهج»، الذي جمع في القرن الرابع الهجري، عُدّ منسوباً.

لكن، لنفترض صحة نسبتها لعليٍّ، أو لمَن قبله وبعده، فإنها قد قيلت في ما مضى، بمعنى هناك تقدير لمشكلة قد طُرحت، في ما يتعلق بالمجافاة مع الزَّمن. لكنَّ القوى الدِّينية تبقى تعيش المأزق، ولا تريد الأخذ بكلِّ ما يدفع للمجاراة بين النَّاس وعصورهم. نذكر ما ذكرته تلك المرأة التي عاشت ولم ترَ جملاً، لأنها لم تخرج مِن الدَّار، فلا يُستغرب ما أخبر به القاضي أبو علي التنوخي (ت384هـ): أن امرأةً لم تخرج أربعين سنة مِنَ الدار إلا وقت السفر مِن الأنبار إلى بغداد، يومها رأت «جملاً يدير دولاباً، فقالت ما هذا؟ فقيل لها: دولاب الجَمل! فحلفت أنها ما رأت جَملاً قطُّ» (نشوار المحاضرة). هذا هو الزَّمن الذي يبتغونه، قياساً بتقدم عصرنا وتخلف عصر تلك المرأة، فأول علامات هيمنة الإسلاميين، على المجتمع، هو التوجه لأسلمة قضايا النِّساء، وربط هيمنتهم بأحوالهنَّ الشَّخصيةَ.

غير أن الزَّمن الذي لم تر المرأة فيه الجَمل، إلا لسفرٍ، قد مضى، وكان أهله لا يهتمون بدور للنساء، سياسي واجتماعي وفكري. لكن كيف يُراد لهنَّ، وفي هذا العصر، السكوت لمن يتعدى عليهن باسم الدفاع عن «الفضيلة» الغائبة لدى مَن يدعي بالدفاع عنها؟! فجاء الرَّد قوياً فاجأ مَن اتهمهنَّ وزملائهنَّ المتظاهرين بالتعري والفسق والرذيلة. جاء هذا الاتهام والتهديد مِن قبل مَن سموا أنفسهم بـ«جند الله»، و«جند المعصومين»، أما معروف الرَّصافي (ت1945) فسماهم بـ«بوليس السَّماء» (العمري، حكايات سياسية).

لا نرى في هؤلاء، مِن أصحاب المنابر، غير حراب توجهها القوى الدِّينية السياسية ضد التقدم، يتفاخرون بكثافة العوام التابعين، من الذين لا يعرفون أين تكون مصالحهم. لو كان هناك دولة قانون، ورئاسات جسورة مِن أجل البلاد، لُقدم مثل هؤلاء إلى المحاكم، كي يُحاسبوا به على التحريض، بل والتهديد بالفعل بـ«جند الله»، والعبارة تعني «القتل»، وقد حصل هذا.

أقول: بما أن الزَّمن قد تبدل، والكلمة المأثورة السالفة، سواء كانت لسقراط أو لقائلها في أيَّ زمن كان: «لا تكرهوا أولادكم على آثاركم، فإنهم مخلوقون لزمان غير زمانكم»، هي الحقيقة لا ما تعتقده القوى التي تسبح عكس التَّيار، ولا ترى مياهاً جديدةً في النَّهر (التطور كما عبر عنه هيراقليطس).

خرجت النِّساء «زرافات ووحداناً» إلى ساحات التظاهرات وبشعارات مذهلة، رداً على النفوس المريضة، التي لا ترى في الاختلاط سوى «الفجور». لم نكن نعتقد أن الوعي العراقي، الذي تهيمن عليه أدوات الأحزاب الدِّينية والعشائرية، يخرج بهذا التَّحدي: «أنا ثورة لا عورة». لقد أحرجت تظاهراتهنَّ، وزملائهنَّ الشَّباب شكلوا سوراً حولهنَّ، لحمايتهنَّ مِن «جند الله» و«جند المعصومين»، أي القوى الدينية وسلاحها لمراعاة تطبيق القواعد الشَّرعية! لكن السُّؤال: لماذا لم يكن قتل أكثر من سبعمائة متظاهر ومتظاهرة ضمن «مراعاة القواعد الشَّرعية»؟!

اختلف الزَّمن، وتبدلت القوى الفاعلة، والاحتجاجات بالمدن العراقية، الجنوبية والوسطى، حددت مساراً جديداً، أصبح فيه خطورة الاختلاط، في ساحات الاحتجاج وغيرها، مجرد نُكتة، بعد تحطم حاجز الرُّعب الذي فرضته الميليشيات. هذا، وبنات العراق، يحملنَ أرثَ عقودٍ مِن التقدم لا يلغيه بيان أو فتوى.

قال محمد مهدي الجواهري (ت1997) راداً على اعتراضات القوى نفسها على فتح مدرسة للبنات، في قصيدته «الرَّجعيون» (1929): «غداً يُمنع الفِتيانُ أنْ يتعلَّموا/كما اليومَ ظُلماً تُمنَعُ الفَتياتُ»(الدِّيوان)! لم يحسبوا للزمن حسابه، كي يعلموا: إن بنات العراق لَسنَ كما أرادوهنَّ!