بندر نوري يحلل مظاهر التبعية الهيكلية في السودان

كتاب 'الاقتصاد السياسي للتبعية من الاستعمار القديم وحتى الإمبريالية الاستخراجية' يحاول الاجابة عن اسئلة مثل هل توجد علاقة تبعية بنيوية للبنية الاجتماعية السودانية بالنظام الرأسمالي العالمي؟ ماهوتاريخ علاقات التبعية في السودان؟ ماهي أشكالها تاريخيا وآلياتها لإعادة إنتاج نفسها؟

يهدف هذا الكتاب "الاقتصاد السياسي للتبعية من الاستعمار القديم وحتى الإمبريالية الاستخراجية" للباحث بندر نوري إلى الإجابة على مجموعة من الأسئلة المفتاحية التي تقود منطق البحث العلمي وتتمثل في الآتي: هل توجد علاقة تبعية بنيوية للبنية الاجتماعية السودانية بالنظام الرأسمالي العالمي؟ ماهوتاريخ علاقات التبعية في السودان؟ ماهي أشكال التبعية التي تشكلت تاريخيا والآليات التي تعمل بها لإعادة إنتاج علاقات التبعية؟

للإجابة على هذه التساؤلات فإنه وفقا للباحث كان لابد من البناء فوق ما شيده كارل ماركس من نقد للاقتصاد السياسي البرجوازي والنظام الليبرالي الرأسمالي؛ وتحديدا نقده لديفيد ريكاردو وآدم سميث واكتشافه للقوانين الداخلية التي تحدد حركة النظام الرأسمالي. وقال "الاقتصاد السياسي هو العلم الذي يدرس العلاقة الديالكتيكية التي تربط بين الاقتصاد والسياسة، ويمكن تفكيك هذا التعريف للمزيد من الإضاءات الكاشفة حول هذا القسم من العلوم الاجتماعية الذي يهتم باستكشاف ودراسة الإنتاج والتجارة وعلاقتهما بالقانون، العادات، نظم الحكم والطريقة التي يوزع بها الدخل القومي والثروة القومية، أو الدخل والثروة على المستوى العالمي، ويمكن أن نلخص تعريف الاقتصاد السياسي من منظور ماركسي بالاحتكام لتعريف روزا لوكسمبورغ حيث تعرِّف الاقتصاد السياسي بأنه العلم الذي يدرس قوانين تطور النظام الرأسمالي، بما يشمل عناصر البنية التحتية (التناقض بين علاقات الإنتاج والقوى المنتجة)، والبنية الفوقية (تنظيم جهاز الدولة، القوانين، الأخلاق ..إلخ) والعلاقة الديالكتيكية التي تربط بينهما.

وأضاف "تأتي التبعية كحل لابد منه للنظام الرأسمالي لتجاوز التناقضات الداخلية عبر التمدد المستمر للحصول على المواد الخام، والأيدي العاملة الرخيصة والأسواق. مع التحولات التي حدثت في بداية السبعينيات وهيمنة الرأسمالية المالية على النظام الرأسمالي العالمي في طوره النيوليبرالي المعولم تم بناء المؤسسات المالية المعقدة وباستخدام التقنية العلمية المتطورة مثل النظام الائتماني تتمكن الرأسمالية من الحركة الواسعة في الزمان والمكان وعبر القوميات والجنسيات بحثا عن الفوائض الاقتصادية في ظل تقسيم عالمي جديد للعمل، ملازم لكل مرحلة من مراحل الرأسمالية".

وانطلاقا من هذه الرؤية حاول الكتاب بناء إطار نظري عن التبعية بدء من اكتشاف ماركس للقوانين الداخلية التي تحكم حركة النظام الرأسمالي، وإسهامات منظري التبعية وتحديدا سمير أمين والذي درس التشكيلات الاجتماعية لدول المحيط في سياقها التاريخي لاستنباط تشكل علاقات التبعية في سياقها التاريخي وتجددها في سياق التحولات التي تحدث في النظام الرأسمالي العالمي وفي داخل هذه التشكيلات الاجتماعية أيضا، بالإضافة إلى إسهامات منظري الماركسية مثل ديفيد هارفي، أريك توسان، دومينيك ليفي، إريك دومنيل، وبدرجة أقل نيغري وهاردت والذين وظفوا منهج ماركس لدراسة التحولات التي حدثت في الرأسمالية العالمية في طورها النيوليبرالي المعولم لدراسة معالم التبعية على الصعيد النظري والعملي. كما يدرس الكتاب الإضافات النظرية التي تقدمها مظاهر التبعية الهيكلية في السودان لإغناء نظرية التبعية على الصعيد العالمي. ومع كل مرحلة من مراحل النظام الرأسمالي وتحولاته وأزماته تتم إعادة صياغة للديناميكيات التي تنتج وتعيد إنتاج التبعية، لذا فقد حاول هذا الكتاب استكشاف هذه الديناميكيات عبر المراحل التاريخية والحقب المختلفة التي مر بها النظام الرأسمالي وربط ذلك بالكيفية التي كانت هذه التحولات تصيغ وتعيد فيها صياغة التبعية البنيوية في السودان عبر التاريخ.

تأتي التبعية كحل لابد منه للنظام الرأسمالي لتجاوز التناقضات الداخلية

ويشير الباحث إلى أنه خلال غمار الحراك الثوري الذي يشهده السودان منذ ديسمبر 2019، كانت هناك ضرورة كتابة كتاب عن التبعية، وتحديدا في ظل الصراع الذي دار حول البرنامج الاقتصادي والمدرسة الاقتصادية التي يجب اتباعها في الفترة الانتقالية والذي تم اختزاله في الموقف من الدعم وتحديدا دعم الوقود. فالملاحظ غياب الخطاب الداعي لقطع علاقة التبعية البنيوية بالإمبريالية كضرورة أساسية لبناء جهاز دولة واقتصاد حديثين لذا طرح الكتاب السؤال المحوري الذي يقض مضجع الثوريين، وهو: هل بالإمكان بناء دولة حديثة دون قطع علاقة التبعية البنيوية بالإمبريالية العالمية ودون تجاوز إشكاليات وتشوهات الديمقراطية الليبرالية وآفاقها السياسية وما تفرضه من فصل تعسفي للفضاء الاقتصادي (ملكية وسائل الإنتاج وتوزيع الخيرات المادية) عن الفضاء السياسي؟ بمعنى آخر هل بناء الدولة الحديثة وبناء الاشتراكية مهمتان تاريخيتان منفصلتان أم مهمة واحدة؟. للإجابة على هذه التساؤلات عمل الكاتب على إجراء مراجعات نقدية لنظرية التبعية في أدبيات الحزب الشيوعي السوداني وفي نظرية الثورة عند الحزب الشيوعي السوداني.

قام الباحث ببناء إطار نظري لنظرية التبعية من أجل التوصل للتمظهرات المادية للتبعية البنيوية في المراحل المختلفة من عمر النظام الرأسمالي وذلك في الفصل الأول. ومن ثم قام بإلقاء نظرة على تاريخ التبعية وديناميكياته في السياق السوداني والكيفية التي أثر بها النظام الرأسمالي العالمي في إنتاج هذا السياق عبر الحقب التاريخية المختلفة من الاستعمار القديم وحتى الحديث. وأخيرا قام بتحليل سجلات الديون وخدماتها، كما قام بتحليل الموجز الإحصائي للتجارة الخارجية الصادر من بنك السودان المركزي لعشرة أعوام وذلك من أجل الإجابة على سؤال المبحث الأساسي: هل توجد علاقة تبعية بنيوية في السودان؟ وهل تمظهرات هذه التبعية مطابقة للتمظهرت التي تجلت عبر البناء النظري الذي شيده الكاتب عن نظرية التبعية؟.

حلل الباحث لمظاهر التبعية وتحليل الموجز الإحصائي للتجارة الخارجية منذ 2008 وحتى النصف الأول من 2020، بالإضافة إلى المعلومات التي توفرت عن ديون السودان الخارجية لتفحص مدى حضور تمظهرات التبعية وتساءل هل معلومات الهياكل الاقتصادية الملموسة تؤكد وتغني نظرية التبعية وتمظهراتها أم لا؟.

ورأى أن الطابع الإشكالي لنظرية التبعية التي يتبناها الحزب الشيوعي السوداني لجهة فصلها الميكانيكي بين الاقتصاد والسياسة بافتراضها إنجاز مهام الاستقلال السياسي عام 1956، وأن مهام ما بعد 1956 هي إنجاز الاستقلال الاقتصادي. أكدت أحداث حراك ديسمبر الثوري تعميق التبعية البنيوية بالإمبريالية عبر تدخلات المحاور الإقليمية (الإمارات، السعودية، مصر) السافرة في دعم الثورة المضادة وقطع طريق الثورة وبالتالي تشكيل سلطة انتقالية أدت لارتهان القرار السياسي كليا للخارج، لذا يمكن الوصول لخلاصة مهمة مفادها أن التبعية هي بطبيعتها مزدوجة سياسية واقتصادية أي تبعية بنيوية بما تشمل كل حقول البنية الاجتماعية: الحقل الاقتصادي، الأيديولوجي والحقل السياسي.

وأكد الباحث أن نظرية الثورة عند الحزب الشيوعي لا تطرح قطع علاقة التبعية البنيوية بالإمبريالية كإحدى المهام الملحة للمرحلة الراهنة ويفصل بين استعادة الديمقراطية وبناء الاشتراكية بطرح ضرورة المرور باللوحة الخماسية، أي بمعنى حتمية بناء جهاز الدولة الحديث البرجوازي كمرحلة انتقالية تسبق بناء الاشتراكية. مما يستدعي بناء نظرية ثورة غير طبقية تعتمد على جبهة عريضة تفترض عدم وجود الصراع الطبقي، في حين أن العدو الطبقي (التحالف الطبقي البرجوازي المسيطر) يعمل وفقا لقوانين المادية التاريخية في الحفاظ على مصالحها الطبقية التي تعتمد على المحافظة على جهاز الدولة القديمة وعلى علاقات التبعية البنيوية، بينما ممثل الطبقات الكادحة يعمل على التنازل عن كونه حزبًا طبقيًا يدافع عن مصالح العمال إلى حزب برامجي مفتوح لكل الطبقات ويدافع عن مصالحهم جميعا مما يميع الصراع الطبقي وتشكل الوعي الطبقي. الدليل التاريخي على ما ذهبت إليه الملاحظة التاريخية المهمة أن جميع الثورات التي قامت في تاريخ السودان ما بعد الاستقلال انتهت بتبني سياسات التكيف الهيكلي وتعميق التبعية البنيوية، عام 1966/1967 بعد ثورة أكتوبر تاريخ أول تعامل مؤسسي مع صندوق النقد الدولي، أما مارس- أبريل 1985 وديسمبر 2019 فشهدت تبني سياسات التكيف الهيكلي بشكل كامل.

كما أكد الباحث على الطابع الطبقي لسياسات التكيف الهيكلي والطابع الطبقي للتبعية البنيوية حيث إن الأزمات الاقتصادية التي تمر ومرت بها البلاد سببها استيلاء التحالف الطبقي البرجوازي على الفوائض الاقتصادية (كما يمكن ملاحظة ذلك بالأرقام)، بمعنى أن إشكال السودان ليس في شح الموارد كما يشاع وإنما من النهب الممنهج لهذه الموارد عبر الرأسمالية الأجنبية ووكلائها بالداخل، ويستلزم ذلك تغيرًا في طبيعة الدولة المنسحبة من إدارة النشاط الاقتصادي، تقديم الخدمات الاجتماعية وبالتالي انتزاع جزء من الفائض ليتم توزيعه على باقي الطبقات الاجتماعية (الصيغة الكينزية)، مما يقلل من حدة التناقضات الطبقية. انتفاء كل ذلك مع تعميق التبعية البنيوية بتنفيذ سياسات التكيف الهيكلي أدى حدوث الأزمات الاقتصادية والاجتماعية والإفقار الممنهج الذي يحدث للطبقات الكادحة. لذا قطع علاقة التبعية بالإمبريالية هو الشرط المادي لبناء جهاز دولة حديث وذلك يتطلب حزبًا ثوريًا يتبني نظرية ثورية تطرح بناء الديمقراطية والاشتراكية كمهمة تاريخية واحدة وليست مهمتين منفصلتين، فالشرط الضروري لقطع علاقة التبعية هو السير في طريق بناء الاشتراكية.