بين الاقتصاد والعقيدة.. تطور الغرب وتخلفنا

لا زالت شعوب منطقتنا تتخذ من الافكار والايدلوجيات العقائدية سببا للصراعات فيما بينها، وتفرخ الاحزاب والمنظمات على ضوئها، بينما يضع العالم الحديث الاقتصاد محورا لتوجهاتها وصراعاتها، ومعظم احزابها خدمية دون ايدلوجيات.

منذ القدم والاقتصاد هو المحرك الاساس في تحديد توجهات الكيانات السياسية وحتى الاجتماعية، وكل الحروب التي نشبت على مر التاريخ كان الهدف الرئيس ورائها هو الاقتصاد، وما تباين فيها كانت الادوات والعوامل المجردة، فحتى الحروب المقدسة التي كان الدين السبب المعلن لها، كان الاقتصاد هو هدفها الحقيقي وغايتها.

وفي العصر الحديث وبعد تعقيد المفاهيم الاقتصادية اصبح الاقتصاد متحكما ليس فقط في نشوب الحروب بين الدول والمجموعات وانما حتى في نوعية العلاقات السياسية بينها.

الجهة الوحيدة التي شذت عن هذه القاعدة وانحرفت عن منطقية الاشياء هي الشعوب المسلمة في العصر الحديث. فمع بروز حركات اسلامية تدعو لتحكيم الشرع بين الشعوب الاسلامية وترفع شعار الاسلام هو الحل، اصبحت العقيدة المحور الرئيس للصراع لديها، سواء بين هذه الحركات وحكومات المنطقة، او بين هذه الحركات والقوى الدولية، او بين هذه الحركات بعضها البعض، وتم توظيف الاقتصاد لديمومة هذا الصراع، مع ان المسلمين الاوائل وكما قلنا انفا لم يغب عامل الاقتصاد عن فتوحاتهم الاسلامية. ولنا ان نلاحظ خط سير الفتوحات الاسلامية سواء لبلاد الرافدين او الشام او مصر، والاموال الطائلة التي جنوها منها، لنكتشف اولوية الاقتصاد في تلك الفتوحات.

ان السبب الرئيس لوضع العقيدة محور في صراع الحركات الاسلامية مع الاخرين، هو افتقار القائمين عليها للحنكة السياسية اللازمة، وعدم الالمام بتعقيدات العلاقات الدولية الحديثة. فهم لا يزالون يعيشون في متون الكتب القديمة الصفراء، تقتصر مداركهم على العلوم الدينية التي تجعل من الفرد يفكر ببعد فكري واحد دون اخذ بقية الابعاد بنظر الاعتبار. لذلك نرى ان تلك الاحزاب والحركات استغلت بسهولة من قبل القوى الدولية تحركها حسب مصالحها (بشكل مباشر او غير مباشر) لضرب اقتصاديات دول المنطقة، واستنزاف طاقاتها المالية في صراعات لم يخرج منها اي طرف منتصرا لغاية يومنا هذا.

هناك نقاط معينة تميز الصراعات الاقتصادية في العصر الحديث عن تلك التي تكون اهدافها عقائدية:

 اولا.. ان الحروب لا تكون نتيجة حتمية للصراعات الاقتصادية الا ما ندر، بينما لا توجد مساومة في الصراع العقائدي لذلك تكون الحروب هي الحل الاقرب ولها الاولوية.

ثانيا.. الصراع الاقتصادي يستنزف الطرف المهزوم فقط، بينما يمكن للطرف المنتصر تعويض خساراته المالية كنتيجة حتمية (اذا لم يصل الصراع لمستوى الحرب)، اما في الصراع العقائدي فان جميع الاطراف خاسرة ومهزومة تستنزف اقتصاداتها دون ان تكون لها القدرة على التعويض.

ثالثا.. ان الصراع الاقتصادي تكون نتائجه مادية ملموسة (للطرف المنتصر)، بينما في الصراع العقائدي فان الاموال توظف وتصرف لانتصار افكار عقائدية غير ملموسة، وبذلك تكون نتائجها سرابا حتى للطرف المنتصر.

ان الحركات الاسلامية (السياسية) التي تختزن في ذاكرتها العقدية تسخير النفس والروح من اجل نصرة عقيدتها، لن تتردد بالتأكيد في تسخير الاقتصاد من اجل تلك العقيدة، ولا ندري كيف يمكن لعقيدة ان تعتبر منتصرة على اشلاء اقتصاديات مدمرة ومتهالكة في مجتمعات جاهلة متخلفة.

 فاذا ما حاولنا تقدير المبالغ الهائلة التي صرفت على الصراعات العقائدية في المنطقة بين حكومات دولها من جهة، والحركات والاحزاب والمنظمات العقائدية من جهة اخرى، نستطيع تخمين الدمار التي لحق بالمنطقة جراء هذا الصراع العبثي:

* ابتداء من الاموال التي وظفت لتأسيس تشكيلات الاخوان في بدايات القرن الماضي، مقابل الاموال التي رصدتها الحكومات لتامين امنها الداخلي بالوقوف في وجهها..

* كذلك الاموال التي خصصت من قبل العراق وايران مثلا لديمومة الحرب التي استمرت بينهما لمدة ثمان سنوات والتي اختلطت فيها العقيدة الدينية مع العقيدة القومية..

* اضافة للمبالغ التي وظفتها القاعدة وداعش لتنفيذ عملياتها الارهابية، مقابل الاموال التي رصدتها دول المنطقة للوقوف ضد هاتين المنظمتين، والدمار التي لحق بالمنطقة جراء تلك العمليات، يقابلها الاموال التي انفقت على اعمار المناطق التي دمرتها عمليات تلك المنظمتين...

* كذلك الاموال التي سخرتها ايران لتمويل اذرعها في المنطقة، مقابل الاموال التي رصدتها دول المنطقة السنية للتصدي لمحاولات ايران هذه..

* وانتهاء بالمبالغ الهائلة التي يستنزفها الصراع المذهبي الحالي في المنطقة بين الدول العربية السنية وايران.

كل هذه الاموال الضائعة تظهر لنا حالة الاستنزاف التي تسببت بها حركات الاسلام السياسي الدعوية منها والجهادية، السنية منها والشيعية. ولنا ان نتخيل وضع هذه الدول لو ان هذه المبالغ الهائلة على مدى قرن من الزمن قد انفقت على تنمية وازدهار دول المنطقة هذه. لندرك مدى الدمار والضرر التي لحقت بمنطقتنا جراء وجود هذه الافكار العقائدية فيها.

الغريب انه ورغم الدمار والتخلف الذي لحق بشعوب منطقتنا بسبب اقحام العقيدة في محور الصراع، وتحول كياناتها السياسية الى دول هلامية تفتقر الى ابسط مقومات الدولة، الا ان هذه الشعوب ما تزال مصرة على رفع شعار الاسلام هو الحل والمضي في ذات الدرب الذي لم يجن منها الاولون خيرا عوضا عن الاخرين.