تجليات البيان والمحاكاة ورصد عبثية التراث في 'يا طالع الشجرة'

الكاتبة أماني الجندي تختار في تناول سطور هذه الأغنية الشعبية أن تعنون بها منجزها الإبداعي حول 'دينامكية الحذف والترميز' في كلماتها.
منى منصور
القاهرة

يا طالع الشجرة.. استوقفني هذا الاستهلال للعتبة الأولى للنص في كتاب "دينامكية الحذف والترميز في يا طالع الشجرة" للكاتبة أماني الجندي، ليتداعي من فوري تلك الأغنية التي يحفظها الجميع.

هذا النداء المتبوع بطلب أو رجاء برمزية عالية وبلاغة فصيحة:

يا طالع الشجرة

هات لي معك بقرة

تحلب وتسقيني

بالمعلقة الصيني

وتحديدا في تناول هذه السطور التي اختارت الكاتبة أن تعنون به منجزها الإبداعي الذي بين أيدينا نتناوله بشيء من الإسهاب:

هنا اللغة الرمزية تتخلل اللاوعي لتعتمل بأطياف شتى من المعاني بدلا من تلك اللغة الصريحة التي تنوء وضوحها عن أن تمنح  مخيلة القارئ براحا لحرية التلقي، هذه السطور أيضا تضيف تأثيرا بصريا ليجد القارئ نفسه أمام صورة مجسدة وإيحاءات دلالية عن البقرة والشجرة فكلاهما رمزالخصوبة والعطاء، الحليب والسقية رمزالنقاء والحياة.

في تصدير العمل أشارت الكاتبة إلى القصدية في اختيار تلك السطور تحديدا كمدخل للولوج في رحلة للتراث العربي والإنساني (قد أجادت ذلك) لأنها يقينا على دراية بتعلق الغالب الأعم من القراء بتلك الملحمة الشعبية ولما لها من دلالة وبلاغة تصلح لتكون بداية لمشروع إبداعي للكاتبة من وجهة النظر والزاوية التي اختارت أن تسير على نهجها وتأطير منهجها وفقا لها.

تم تقسيم الكتاب وفقا إلى ثمانية عشر قسما من أقسام التراث الشعبي عبرعصور شتى ومعان متنوعة.

سنتناول هذه الأقسام بإيجاز فقد تم استيفاء كل قسم منها ببراعة ومصدقية لا يغني عن قراءتها شيء:

القيم الأول: الارتجال في فنون الفرجة الشعبية

بعين الباحث العليم  ترصد الكاتبة كل المسميات التي تنتمي لتلك الفنون وتستعرض كل وظائفها المباشرة وغير المباشرة واثر ذلك على طوائف المجتمع ومدلول ذلك أيضا، فهي لا تترك شيئا يسقط من بين أيديها ولا تتركه ليأخذ أكثر من معنى فهي قائمة على مشروعها بإتقان وتفان بحيث تعطي صورة باحثية كاملة ووافية تصلح لتكون مرجعا لدراسات أخرى، كما قالت الكاتبة ص7 أن الكتابة في التراث الشعبي متجددة دائما.

الفرجة الشعبية كان مدخلها هنا ثم عبر الاستطراد نتعرف أيضا أشهر فنونها الدراما (المحبظين والمقلداتي) والعرائس (الاراغوز، خيال الظل، صندوق الدنيا) ثم تتطرق للسامر.

القسم الثاني: رواة الحكي في التراث الشعبي

 تتعرض للشخوص سواء الرواي والقاص ثم تصنيفهم الرواة الهوة والمحترفون، المحدثون، الشعراء، العناترة، المنشدون، الجوقة، المدائح النبوية، الأماكن والمناسبات (دينية، اجتماعية).

القسم الثالث: القوالون ومقامات الوجد

 تدلف بنا الكاتبة لمنحى الصوفية هذا الفن الإلهي كما ذكرت الكاتبة ص28 لتكلمنا عن حياة الصوفية وفلسفتهم، ثم نتعرف على القوالون (مسمى يتبع الصوفية)وهومن ينشد الأشعار في المحافل، تخبرنا بأن الألف واللام هي للتعميم فهي تشمل كل قول، ثم تنحى لتضمين بعض الأبيات للتوضيح والاستشهاد بما يثري بحثها الابستمولوجي.

القسم الرابع: على الارغول

الارغول اسم مزمار يصنع من قصب الغاب ص 38، وتستطرد في توضيح تاريخ هذه الآلة الموسيقية مستعينة أيضا بتضمين أمثلة للتوضيح.

القسم الخامس: الاستبداد والسلطة في الثقافة الشعبية

هنا تستوقفنا الكاتبة لتتعرض لمنحى مختلف في بحثها ربما في طبيعة المحتوى وأن كان متواءما مع السياق المنهجي للبحث، وكان من الضروري أن تتعرض الكاتبة لهذه النقطة لأنها من متن الموضوع، بل وانعكاس تطبيقي لكل الفنون التي تناولتها في لأقسام السابقة ومبررالنشأة المجتمعية، علاقة تبادلية لا تنفصم على أي مستوى.

القسم السادس: قيمة الوفاء في السير الشعبية   

القيم الإنسانية نبع أساسي وملمح رئيسي في تشكيل تراث الشعوب، أفردت الكاتبة لقيمة الوفاء وهي ليست بالشيء القليل بل هي توجز لصفات كثيرة تندرج تحت لواءها.

القسم السابع: الحيوان في التراث الشعبي

لشمولية البحث وتثمين جهوده تناولت الكاتبة ما للحيوان أيضًا من حضور في تشكيل تراث الإنسانية فالطبيعة ومنطقها في مشاركة الإنسان، الحيوان والنبات في منظومة الوجود اثر فعال في تشكيل تلك العلاقات المتداخلة في ارث الطبيعة والحياة.

القسم الثامن: آخت.. بريت.. شمو النيل والمواسم

الكاتبة في رحلتها عبر التراث الشعبي العربي لم تبخل على مصريتها ببعض التخصص فمرت بهذا العظيم الشاهد على حضارة مصر بل هي هبة منه، فطرقت بابا احسبه أثلج نفوس القراء المهتمين بحضارة الفراعنة العظام في كل الجنسيات، الحياة تدور حولك يا نيل هكذا توثق الكاتبة بحثها وتضيف بعض أغاني له، الملوك والشعب على حدا سواء يعلم قدره في حياتهم وحياة كل الشعوب حولهم، توقيت أعيادهم، أفراحهم وتاريخهم، في القسم التاسع تخبرناعن وفاء النيل عند القدماء المصريين، معناه واحتفائهم به وأغانيهم.

القسم العاشر: التكية والسبيل يا عطشان

تتعرض لجزء آخر من التراث ربما لا يعرف القارئ العادي معناه تحديدا وإن تناولته بعض الأقاويل بمعنى الاتكال على الغير والكف عن السعي للرزق، المتتبع للعمل يجد رد كامل عن أوجه الحياة في التكية من مسكن ملبس، يضا بداية وجودها التاريخي ثم تنتقل لتوضح نشأة الأسبلة والحمامات العامة كجزء من مظاهرالحياة في عصورماضية وإن تبقى بعضها كأثر في بعض الأحياء الشعبية.

القسم الحادي عشر: أغاني الصباح في الوجدان الشعبي

تركزعلى لون واحد من الغناء وهو الخاص بالصباح وهنا نستشعر قرب المرحلة التاريخية التي تستشهد بها الكاتبة وتعيها قلوبنا جميعا، قد نجحت أن تمنحنا البهجة برحلتنا معها عبرتلك الأغاني الجميلة.

القسم الثاني عشر صلة الدم والرحم في المعتقد الشعبي

تلمس الكاتبة نقطة تجد صدى كبيرا في حياتنا فأحسنت بتوثيقه ودراسة وجوده في تراث الإنسانية واستعانت ببعض الشعروالأمثال الشعبية بشكل رائع.

القسم الثالث عشر: السحر في المعتقد الشعبي

عالم المثيولوجيا بكل غرائبه لم تغفله الكاتبة لأنه يمثل جانب هام وحيوي من التراث الذي تنقله الأجيال حتى يومنا هذا ما بين مصدق أو رافض لهذه الغرائبية.

القسم الرابع عشر: الحياة بعد الموت

المنظور الديني والتراث مجتمعان في هذا القسم ورحلة بين المعتقدات والكتب ما بين الديانات المختلفة والعصورالتاريخية المتتبعة والاستشهاد بالوثائق التاريخية التي تتناول هذا المعتقد الديني وأن اتفقت جميعا كما تقول الكاتبة ص140(في وجودعالم أفضل من عالم الأحياء).

القسم الخامس عشر:الغول والإنسان والوحش

هذا المزيج من الشخصيات موجود بوضوح في قصص الجدات وأن كان المعنى الملازم له هو الخوف والشخصية المرعبة التي تبث الخوف في قلوب الصغاروأحيانا الكبارفيمن يؤمن منهم بوجود تلك الأرواح الشريرة الملتبسة في شكل هذه المخلوقات، لكن الكاتبة أرجعت هذه المسميات لحقيقة وجودها في التاريخ وحقيقة ظهورها في تراثنا وكل ما يتصل بها من معلومات، كذلك لم تغفل شخصيات أخري أسهم في تخليقها الخيال الشعبي ووجودها في المحكيات.

القسم السادس عشر الحب بين الإنس والجن  

الجمال والقبح موجود أيضا في المعتقدات الشعبية متمثلا في الجنية الجميلة التي تعشق الإنسان والقبيحة التي تعشق الإنسان وما بينهما من إشكالية قد وظفت في التراث في عدد لا حصر له من القصص، حتى يومنا هذا رغم ما أوصلتنا إليه العولمة من تقنيات وسوشيال ميديا إلا أن البعض لم يزال يعزي بعض الأحداث لمثل هذه المعتقدات، الإنس والجن لا يلزم أي منهما مكانها الذي خلق له، هذا التواصل بينهما يثري هذا النوع من القص.علاقة أخرى تتعرض لها في القسم السابع عشر الملائكة والجن والشياطين في المأثورالشعبي. 

هنا تفرد الكاتبة مساحة للعلاقة بين الجن والملائكة والقصص التي تتناول هذه العلاقة.

جهد مشكور وبحث ثري جديرا أن يكون مرجع للباحث عن خلفية تاريخية للكثير من معتقداتنا وموروثنا الشعبي.