'تجليات الخط' معرض استعادي لتجربة الفنان عمارة غراب

معرض بانورامي يقدم مسيرة حافلة وتجربة حرية بالمتابعة وشخصية مختلفة وفنان بروح طفل.

ماذا لو يأخذنا النور.. إلى بقاع الوجد .. والحلم.. والكلمات.. حيث الظلال عمارة القلب والروح.. والألوان سردياتها الباذخة.. ثم ماذا لو تقولنا طفولة عابرة ومقيمة بالدواخل في تجليات الأمكنة.. ثم ماذا.. آه منك أيتها السيدة القلقة التي اسمها "ماذا"..

هكذا غنى الفتى شيئا من نشيده القديم في تلك البقعة من جنوب تونس ذات مجيء حالما بالخط واللون والكلام في عنوان لافت لرغبات شتى من أسمائها البهجة والحلم والضوء والكلمات. جرجيس حاضنة هذه البدايات المفعمة بروائح الزيتون ونشيد البحارة فجرا وإيقاع القرويين القدامى الذين يضيؤون دروبنا بالتحايا وبالبهجة العارمة..

من هذا الدفء والإيقاع البسيط الصادق والحقيقي انبثقت وردته المشرقة بأحلام شتى.. من جرجيس لمعت نجمته وتحرك صوته في الأقاصي.. ومضى في صمته البهي يزرع الخطوط والألوان والبسمات في أرض الناس علها تجلب الحصاد الوفير.. الحب والبراءة والبهجة والجمال والتعايش والسلام ..... والفن الذي يتقن قول العذوبة بأنامل من قصب .. فمن قصب قدت نايات روحه وهي يشير الآفاق حيث نجمة الفجر تدل العابرين تقودهم إلى جنان الوقت وموسيقى الأمكنة ..

عمارة غراب هو هذا الذي ألفته الخطى الأولى في جغرافيا جرجيس المطلة على الأكوان .. أحبها ورأى فيها وجوهه الأخرى التي رافقته في أسفاره ورسوماته وإقاماته بين العاصمة وباريس والقاهرة ... ليطلع الناس على شيء من بوحه الملون وأعماله الفنية المكللة بجمالية فائقة هي من روحه وغنائه العذب ونشيده الدفين ..

التقيته في تسعينيات القرن الماضي في نهارات وسهرات المحرس.. حيث المهرجان الدولي للفنون التشكيلية، إلى جانب نخبة من فناني جيله من تونس ومن العالم وفنانين من أجيال أخرى .. تجلس إليه فيأخذك حرصه على الحلم بما هو جميل ومبهج للآخرين بالفن وغيره.. عميقا لطيفا منصتا ... كان.

اختزل الفن والإبداع التشكيلي والمعماري في تقاسيم وجهه ومحبته للناس وهدوئه الباذخ على غير ما تعوده الناس وجمهور الفن من صخب الفنانين ومعاركهم الشخصية البعيدة عن الإبداع وعدم سمو أهدافهم وأرواحهم المبدعة عموما.. كان عمارة من هذه القلة الجيدة من الفنانين الذين اتخذوا من الفن ومنذ الشباب بوابة للفرح والحلم والرغبات لإسعاد الناس .. والفن هو شيء من تلك السعادة المبثوثة في الأمكنة والعناصر والتفاصيل والأشياء..

سعى الفنان والمعماري عمارة غراب في حياته الفنية إلى الفن بما هو ذاك الذهاب في سفر حيث الذات الحالمة بالتجدد والقول بالمبتكر نظرا للأشياء ومحاولة للإمساك بجوهرها في كثير من الدهشة والبهجة المفعمة بالرغبات.. رغبة التعبير الفني للإفصاح عن اعتمالات الدواخل ورغبة تجميل العناصر واستنطاق الكامن فيها من بهاء... ورغبة المحاولة المفتوحة للإمساك بالفكرة وترويض قلقها وأسئلتها وكل ما يحف بها من عناوين الإبداع والفن في تجليات تفاصيله... ورغبة الوجود عبر الفن حيث الإقامة على هذه الأرض المليئة بالأسرار والفن هنا وبهذه الرغبات وغيرها كون حوار مفتوح ومحاولات متواصلة تجاه هذه الأسرار.. إنها لعبة الفن في ممكنات شتى حيث الفنان ذلك الطفل المقيم في حلمه وفي قلبه شيء من دفتر الرغبات... وهكذا..

ومن الفن يبرز عالم التشكيل كلون إبداعي ينهض على جماليات مختلفة وفق رؤية الفنان ومنطلقات سعيه الفني ورؤاه..

هكذا.. فمن فكرة متحركة تمضي العوالم إلى دواخل الذات وشواسعها الجمة حيث لا مجال لغير النظر بعين القلب.. هي الفكرة تجترح تلوينها منذ طفولات عابرة حيث اللعبة الفنية الإبداعية وما تحيل إليه من فنون مجاور المعمار والتخطيط و... وفق عنوان لافت وهو اللعب باللون والابتكار ذات طفولة.. تأتي بعد ذلك رغبات الذات في النظر وفق زوايا مختلفة لهذه الذات في تعاطيها المختلف مع الآخرين .. مع العالم..

الوجه بتعبيراته الشتى نشدانا لحالات قوله بين البهجة والسرور والشجن الجميل وما إلى ذلك من شؤون وشجون العواطف والأحاسيس.. والجسد هذا المتحرك في فضاءات تعبيريته تقصدا للعبارة والعمارة والتلوين المراوح بين أحوال منها تشخيصية حالمة وتجريدية عميقة في كثير من التبدلات السانحة والمتغيرات الممكنة.

لقد تخير عمارة غراب المعماري والفنان طريقته الفنية وطريقه وسط زحام الرؤى والأفكار والأساليب ليرسم ذاته وما بها من خطاب للآخرين ليبث فيهم شيئا من نشيده وحبه وأمله ووداعته الجميلة التي لونت حضوره بين الفنانين والمبدعين.. الفن عنده عنوان تواصل لقول الذات واقتراح ممكناتها الجمالية تجاه الفضاء والآخر حيث العناوين الجمالية تمنح المتلقي الحيز الكبير من القراءات والفهم والتأويل.. هذه وجهة نظر حيث الفنان ذلك الطفل الذي يحرس لعبه ويحلم بمنح الآخرين عوالم ساحرة يسميها أحيانا الإبداع والحنين .. وأحيانا أخرى يراها علبة تلوين.

هكذا تميزت مسيرة وتجربة عمال غراب الفنان الإنسان وهو المنتشي برقص الدراويش والنشيد الصوفي والطقس الوجداني ليمضي في فسحة الفن بما هو تعبيرية باذخة وعنوان تواصل ..

هذا ما بدا من تلويناته وحضوره الفني الذي تنضاف إليه تلك الخصوصيات التي ميزت سيره الفني كإنسان حيث تشير رفيقة دربه المهندسة نادية غراب ابنة النيل التي أقامت له المعرض بمصر وعملت على نشر الكتاب الفني وعنوانه "عمارة غراب .. فنان تشكيلي ومهندس معماري .. عاشق للنور.. 1945/2023 .." في إخراج أنيق به بانوراما عن السيرة والمسيرة للفنان عمارة وصور لأعماله ونصوص دالة على نظرات وقراءات للتجربة كتبها الفنان والناقد الفني والإعلامي عمر الغدامسي والكاتب هشام بن عمار والكاتبة فوزية الساحلي، كما انتظمت بدار الفنون بالبلفدير بدعوتكم ندوة وحوار حول الفنان والمعماري عمارة غراب بمناسبة اختتام معرضه الاستعادي "تجليات الخط" وتقديم الكتاب الصادر بالمناسبة" عمارة غراب فنان تشكيلي ومهندس معماري عاشق للنور"، وذلك خلال سهرة رمضانية وبحضور جمع من الفنانين والنقاد وأحباء الفنون الجميلة.

هذه الأنشطة كانت بمناسبة المعرض الاستعادي برواق الفنون بالبلفيدير على سبيل الاستذكار والاحتفاء بالتجربة وبالفنان وقد نجح هذا المعرض من حيث إبراز بانوراما التجربة لعمارة غراب وتمكين المشهد الفني التشكيلي بساحته وفنانيه وأحباء الفنون والشبان من اطلالة ضافية على حياة فنية متنوعة المنجزات والأعمال والحضور لفنان أحب الفن بشغف ودرسه بتونس وبفرنسا ومضى في رافده المعماري قولا بما للفن من شمولية جمالية وحسية وإنسانية.

نادية غراب تحدثت بطفولية عارمة مشيرة إلى "عمارة غراب شخصية فريدة في حبها للفن ومن خلاله للناس والبسطاء باعتباره كان حالما ويحب الخير لهم ويرى في الفن ملاذا مبهجا للناس في زحمة العولمة والفقر والقلق والمظاهر القاسية.. من الفن ذهب إلى المعمار ومشاغله وشؤونه العديدة تناغما مع متطلبات الحياة ولكنه سئم هذه الدوامة القاتلة والغارقة في اليومي المتعامل مع المقاولين والمهندسين المعماريين حيث خطط عديد النماذج المعمارية لمشاريع منها الكبرى ولمؤسسات ولم ينسه ذلك ولم يمنعه وعدم تسلم المقابل المادي بالنسبة إلى غير القادرين من ضعفاء الحال والفقراء.. ليعود بقوة إلى الفن التشكيلي تلوينا وحلما وشغفا .. ورغم المرض فإنه كان يواصل رسالته الفنية ومنها بعثه لجمعية كإطار للنشاط حيث نظم تظاهرات فنية وشعرية منها تلك التي شهدتها توزر.. كان يتنفس فنا ويرى الحب في الآخرين ويحلم بإسعادهم ولذلك كانت جل أعماله مبهجة ودافعة تاه الفرح وهنا كان النور جوالا في اللوحات مشيرا إلى القادم الذي يراه جميلا في شحنة قوية من الأمل...".

هكذا رأت نادية فنانها عمارة ولذلك التقت اللوحات والكتاب والمعرض في باحة أحلامها  بدار الفنون بالبلفيدير ضمن المعرض الاستعادي "تجلّيات الخطّ" للفترة بين 15 فبراير/شباط – 15 مارس/آذار 2025.. وعمارة غراب (1945-2023)، هذا الفنان التشكيلي والمهندس المعماري قاده حلمه من مدينة جرجيس الساحرة نحو العاصمة تونس لدراسة الفنون التشكيليّة وبعد ذلك إلى باريس (1968) لينهي دراسته في مجال الفنون التشكيلية وفي الهندسة المعماريّة ثم عاد إلى تونس كأستاذ  في فن المعمار.. قدم بحثه العلمي للدكتوراه حول "الرموز والأشكال في المسكن التقليدي" ..

هذا المعرض الذي ضم 82 عملا فنيا برواق الفنون بالبلفيدير تجلت فيه اللعبة الخطوط والألوان والمعمار لتشكيل وحدة جمالية بينة ميزت عملة طيلة عقود ليستمتع من زار هذا المعرض البانورامي بموسيقى الأعماق وهي تعطر المكان.. مسيرة حافلة وتجربة حرية بالمتابعة وشخصية مختلفة وفنان بروح طفل .. ومعرض شامل للأعمال برعاية وزارة الشؤون الثقافية.

هذه حدائق التلوين والخطوط والمعمار نشدانا للجمال والسمو والإبداع عند عمارة غراب الفنان المفتوح على الدهشة وبهجة العناصر.. وعود على بدء نعيد القول.. ماذا لو يأخذنا النور.. إلى بقاع الوجد .. والحلم.. والكلمات.. حيث الظلال عمارة القلب والروح.. والألوان سردياتها الباذخة.. ثم ماذا لو تقولنا طفولة عابرة ومقيمة بالدواخل في تجليات الأمكنة.. ثم ماذا..آه منك أيتها السيدة القلقة التي اسمها "ماذا".. عمارة غراب.. فنان بحجم بهجة... ونشيد.