تجولات في اللاشعور في تجربة شاعرة لبنانية

مريم جنجلو شاعرة لا تتصنع، فهي الطفلة البريئة تصور لنا حكايات بلغتها الخاصة القادرة على الإستفزاز والإدهاش. 
قصيدة جنجلو لها طابع ونكهة خاصة 
لا أحد سينجح في تقليد الشاعرة فهي ماركة خاصة ومدهشة

أجدني كقارئ ومستمع للشعر أني كن محظوظا بتعرفي على أصوات شعرية وقصصية عربية كل يوم عبر أنشطة المنتدى العربي الأوروبي للسينما والمسرح والذي أتشرف بأدارة فعاليتها وإعدادها أيضا، ونجحنا بعقد شراكات مع عدة منتديات عربية وفي المهجر، ومن ضمنها صفحة "بيت النص" التي أسسها ويشرف عليها الشاعر عبدالوهاب الشيخ، وكان من ثمرة هذا التعاون أمسية شعرية شاركت فيها الشاعرة اللبنانية مريم جنجلو، والتي أثارتني تجربتها الشعرية ووجدت أنها تستحق أن نتوقف مع تجربتها الإبداعية ولو بمداخلة تأملية لنستكشف الكثير من الجمال والتألق الشعري المدهش.
نجد أننا مع شاعرة لا تتصنع، فهي الطفلة البريئة تصور لنا حكايات بلغتها الخاصة القادرة على الإستفزاز والإدهاش، وهي لا تبحث عن سرد خطابي سمج، ولا تتصنع بهرجة شعرية مائعة وتبتعد عن سقطات التقليد والنقل والقص واللصق مما يعطي قصيدتها طابعا ونكهة خاصة هي نكهة مريم جنجلو التي لن نجدها عند غيرها ولا أعتقد أن أحدا سينجح في تقليدها، فهي ماركة خاصة ومدهشة.

دعوة للشراكة مع المتلقي والذي يجب أن يمتلك القدرة على فهم القصيدة النثرية المفخخة بجماليات أنيقة تحدث فيها تعانقات مع كل شيء

تعالوا لنماذج من قصائد مريم جنجلو ولنأخذ أمسيتنا مع صفحة النص برحاب المنتدى العربي للسينما والمسرح وسنرفق الرابط بذيل المادة. 
لعل ما يميز مريم أيضا الإلقاء فهي تمتلك صوتا عذبا تغمسنا في مناخات جمالية وتحرك فينا روحا جديدا.
قصيدة سُهْد
تقولُ إنّ أباها قذفَها وَنَهَضَ مُسرِعًا
لم يقبِّل أمَّها،
فَوُلِدَت عرجاء.
في هذا المستهل تبحث الشاعرة عن بداية غير عادية كمعظم قصائدها، تقذف بنا قذفا لتصور شخصية طفولية، وفي الكثير من إبداعها تميل لتصوير هذه الشخصيات الطفولية، ولكنها طفولة غير عادية يصعقها القدر ببؤس أو لنقل بمصير قدري يشبه مصائر أبطال التراجيديات، هنا الربط بين تقبيل الأب للأم والولادة، كأنها تقول لنا بدون الحب، بدون العاطفة، بدون السلام والروابط الإنسانية سنعاني من الإعاقات الروحية والجسدية والعقلية.
من يومِها،
وَهي تترُكُ فِراشَها لِلَّيل يتدفّأ به،
ترشُّ بالمِسكَ عكّازَيها، فَيَصيرُانِ شفتَيْن،
بِحُمرَتِهما كتبَت أول مرةٍ اسمَها:
(هيميرا): أوَّلُ الصّباح.
نشعر بدرامية غير عادية، فرغم أننا مع قصيدة ليست طويلة، فإن التكثيف يلعب دورا ديناميكيا لتتابع المشهدية التي نظل فيها بلقطات صاعقة فيها من الفجيعة والألم والذي يتم التعبير عنه ببلاغة وبالشعر، تنثره كبريق يجعلنا نرتعد، لكن هذه الطفلة والتي ربما كبرت وأصبحت فتاة وامرأة يلازمها الألم والمصير القدري، وقد يكون من الصعب تبديله ولكن يمكن تحديه. وجعلت شاعرتنا من العكازين “فَيَصيرُانِ شفتَيْن”، أي أداة تقبيل، أي وسيلة ابتسامة وغناء، وغير ذلك، هذه الهندسة الجمالية البديعة قلما نجدها في التجارب الشبابية فهنا مجموعة من البدع لتحويل وخلق عوالم إنسانية فيها تفاؤل.
كفُّها اللامعُ مِثلَ ريشة طاووسٍ،
تحفِنُ بهِ كَوْمًا من الآبادِ،
تحشو مخدةَ الحَرير،
وَبصَوتِها المَبحوح، تفحُّ في مفاصلِ الخلاء:
(ميراج)، تعالْ.
رغم أن مريم مترجمة أيضا، وبالتأكيد تكسبها الترجمة مساحة أكبر في عوالم مختلفة ولكنها لا تتنطع مثلا بكلمات إنجليزية أو فرنسية وتغوص بعمق اللغة العربية، مما قد يستدعيك الرجوع للقاموس ولا نعني وجود تعقيدات لغوية ولكن ثراء لغويا يحسب لها.
التشبيهات والإستعارات والرموز في كل زاوية وركن تتفجر بشكل صاعق ولا تتنازل الشاعرة عن عنصر الإثارة والتشويق، ولا تسمح بالحشو وترهل قصيدتها، كأنها تُحضر لنا مادة كيمائية متقنة خلقتها تفاعلات دقيقة وحذرة، فلا يُمكنك أن تلغي كلمة واحدة، تنساب الصور ليس بشكل متدفق مستقيم وسلس وفي خط ثابت، بل هنالك نقلات وتحركات وهي تُدرك قيمة وخطورة الزمن والمكان، تصور الكف ثم تقفز للصوت المبحوح، فشخصيتها غير عادية.

كرمى لِحُزن عينَيها المقدّسَتَين،
أفلتَ السَّرابُ هراوتَهُ،
وَتجسّد.
وَهبَها وجهَهُ الزّهريَّ تُقوِّرُهُ بأظافرِها،
مثلَ طفلةٍ حقودةٍ، تَلهو بِرغيفِ خُبز.
السمات التراجيدية تظهر جلية ويمكن الإحساس بها، ولعل الكثير من الحذف والإختزال، مرواغات بلاغية وزخرفة شعرية، فالقصيدة كأنها أهزوجة خافتة تلامس الروح، دون صراخات وعويل، تتمظهر الفجيعة برعبها المؤلم.
جيدُها المُنسابُ الأملسُ، قربانُه،
مصكوكٌ بِنظرَتِهِ الغائمة،
تنأى ولا تمّحي، كأنَّها حُبٌّ مارِق
تبردُ داخلَ السّرَيرةِ وَلا تُنسى،
كَما ثأرٍ قديم.
لا ننسى أنه لا يمكن أن نهمل قيمة الحرب في ما تكتبه شاعرتنا، نجدها في الكثير من قصائدها تصريحا وتلميحا، وهنا قد لا نكون بعيدا عن الحرب، فهذه الطفلة، الفتاة، المرأة فيها كل مواصفات الجمال التي يمكن أن نتخيلها (جيدُها المُنسابُ الأملسُ، قربانُه،) لكنها يبدو في فك المأساة التي تطحنها بهدوء وتتمتع بألمها، وكأن النهاية دائرية تريدنا العودة لنقطة تفجر القصيدة.
نعم هنالك إخفاء والقليل جدا من الإظهارات ودعوة للشراكة مع المتلقي والذي يجب أن يمتلك القدرة على فهم القصيدة النثرية المفخخة بجماليات أنيقة تحدث فيها تعانقات مع كل شيء، هذه الإغترافات المتلهبة في هذه القصيدة تتلامس مع اللامرئي، وهي ليست هذيانات متخيلة بعيدا عن واقعنا الذي تسممه الحروب والصراعات، لعل هذا النموذج يدفعنا أن نوغل أكثر في عوالم الجميلة  مريم  جنجلو وهي تفضح قبح عالمنا، هنا ندرك سحر ما يمكن أن يخلقه  اللاشعور من ضجيج الكون وتناقضاته ويقدمه في تكوين إبداعي أنيق يمنحنا المتعة حتى وأن كانت في شكل صدمات مفزعة.