تشريح لعلاقة الآباء والأبناء بمشرط روائي في 'الحنين إلى الجنة'

العمل الروائي الاول للكاتبة والطبيبة النفسية المغربية فاطمة الكتاني يسرُد حكاية أسرة مهاجرة من البادية إلى الحضر خلال عشرين سنة مسلطا الضوء على تأثير اللاوعي في حياة الإنسان وانعكاس ذلك على خياراته في الحياة.

الرباط - صدر عن الدار العربية للعلوم ناشرون للكاتبة والدكتورة المغربية فاطمة الكتاني عمل روائي أول بعنوان "الحنين إلى الجنة".

ويأتي هذا العمل بعد أربعة إصدارات في حقل اختصاصها وهو الطب النفسي، ولهذا تشكّل الحياة المهنية للكاتبة ونظرتها العيادية مرجعاً مهماً في هذا النص وقد أعادت صناعتها بشكل أدبي ضمن رواية تسرد فيها أشياء وأشياء سيرى كل قارئ للرواية نفسه بين سطورها، ويتعرف إلى نفسه وإلى كل ما يمت إلى عالمه بصلة.

موضوع الرواية هو العلاقة بين الآباء والأبناء المراهقين؛ على اعتبار أن دور الأب مهم جداً في تعامله معهم، وعليه أن يحاورهم وينصت إليهم ويحترم وجهات نظرهم. لذلك تتم مقاربة هذه العلاقة في الرواية من منظور نفسي، تتَّبع من خلاله الكاتبة إشكاليَّة الأب بين الواقع والمثال، ثم تبيِّن إشكاليَّة علاقة الأب بالأم وانعكاساتها على العوالم النفسية للأبناء.

تسرُد الرواية حكاية أسرة مهاجرة من البادية إلى الحضر خلال عشرين سنة مع عدم الكشف عن هوية المكان والزمان للدلالة على أن التجربة يمكن أن يمرّ بها أي إنسان وفي كل زمان ومكان، المهم فيها هو كيفية التعامل مع ما يجري في الحياة من تغييرات؛ فالأب أبو عمر الذي حرمه والده من متابعة تعليمه، وضغط عليه ليكون مزارعاً مثله، حفّزه هذا الأمر ليغادر أرضه على أمل الرجوع غنياً ومنتصراً، لذلك سيؤثر قراره على كل ولد من أولاده؛ فالشعور بالغربة في أرض لا تشبه أرضهم، والتعرف إلى مجتمع جديد جعل كل فرد منهم يعاني في صمت. فهم يعيشون الغربة على أمل أن يعودوا إلى أرضهم يوماً ما. لذلك ستمر عائلة أبو عمر بالعديد من المشكلات التي تستوجب إيجاد حلّ لها. من هنا تركّز الكاتبة الكتاني على أهمية معرفة الذات عن طريق الاستعانة بالمعالج النفسي عند الشعور بالاضطرابات النفسية، وهذا ما قامت به العائلة عندما بدأت ابنتها نجوى تشعر بحالات من الهلع والخوف والأحلام المزعجة. فكانت زيارة لعيادة الطبيبة المعالجة مريم هي الخطوة الأولى على طريق التواصل والفهم الأعمق لبعضهم البعض والشعور بالسلام الداخلي.

وبناءً على ما تقدّم تتناول الرواية تأثير اللاوعي في حياة الإنسان، وانعكاس ذلك على خياراته في الحياة، لهذا يمكن مقاربة هذا النص الروائي من خلال البحث عن بنية اللاوعي الكامنة في شخوصه، وعند الكاتبة فاطمة الكتاني فإن حقيقة البحث في اللاوعي، يتم تأويلها في الرواية عبر الوسائط اللغوية والأدبية؛ والأفكار اللاواعية للحلم والتصورات والتداعيات المنطلقة بشكل توالدي عند الشخصيات، حيث يتم التركيز على التواصل بين المعالجة النفسية مريم ومختلف الشخصيات الروائية.

وهنا تبرع الكاتبة فاطمة الكتاني والتي أسندت دورها إلى المعالجة النفسية مريم؛ في التعبير عن سلوكات الشخصيات الروائية وحالاتها النفسية بما يمثّلها من مصطلحات التحليل النفسي ذات الحضور الكثيف في دراساتها، "إصداراتها السابقة"، ولا سيما أن العوالم النفسية التي اختارت الخوض فيها هنا هي مما يُعنى بالجانب الأسري في المعالجة، ويقتضيه. لذلك تتبع الكاتبة أسلوباً في القص، يعرض الحالات النفسية لدى الشخصيات، ثم تقوم بسردٍ تحليلي نفسي خاص تحلّل به تلك الحالات، وتعلّلها، على طريق فهمها وإيجاد الحلول لها، وهو ما سيدركه القارئ للرواية إدراكاً نفسياً، إنّه إحساس داخلي يتخلل هذا العمل الروائي الرائد، ويتسرب إلى نفس القارئ ليعينه على الغوص مع شخوص الرواية ومحاكاة الأحداث، ويمنحه شعوراً بالمشاركة في المواقف التي تتعرض إليها كل شخصية؛ تجعله يسأل نفسه ماذا سيكون عليه تصرفي إذا كنت في مكان هذه الشخصية أو تلك؟

وخير الكلام ما تقوله الكاتبة الدكتورة فاطمة الكتاني في روايتها "الحنين إلى الجنّة": "ويعيش كل منا وفي عقله اللاواعي حنين إلى الجنة التي هبطنا منها.. نبحث عن السعادة في جمع المال وفي نيل الشهادات العلمية وفي علاقات الحب والزواج والمنصب والشهرة والسهر واللقاءات.. نبحث عنها من خلال تعلّقنا بالأشياء والملهيات لنتجاوز خوفنا وحزننا الدفين! ولكن، تبقى حالات الراحة أو المتعة وقتية.. سرعان ما نكتشف أننا واهمون فنشعر بالإحباط، ونبدأ البحث عن أهداف وأحلام جديدة..

ويبقى الحنين إلى الجنة هو المحرك الذي يدفعنا نحو البحث عن ملهيات أخرى.. وهكذا دواليك نستمر في السعي نحو ما هو خارج أنفسنا! رغم أن للجنَّة صومعة مزروعة في قلوبنا لا يدركها إلا من ارتقى في مستوى وعيه واستقرت نفسه في البعد الآخر!! ليعيش السكينة والأمان الداخلي..".

وصدر للكاتبة فاطمة الكتاني سابقا أربعة كتب هي: "وصادقت نفسي.."، "الهروب من الحرية"، "خُلُقُه العظيم مع الأطفال"، و"السموم النفسية".