تقرير موضوعي عن سعادة مدمن المورفين

الإدمان كان موضوعًا مسيطِرًا على بعض أعمال الألماني هانس فالادا التي صدرت بعد وفاته، مثل رواية "السكير" التي كتبها عام 1944.
كل شيء في حياتي ينتهي في كتاب
أعمال فالادا لم تفقد راهنيتها وأهميتها حتى اليوم

قضى هانس فالادا (1893-1947)، واسمه الحقيقي رودولف فيلهلم فريدريش ديتسن، فترات من حياته في مصحات العلاج من إدمان المورفين، كما وقع فريسة إدمان الخمر، ولذلك كان الإدمان موضوعًا مسيطِرًا على بعض أعماله التي صدرت بعد وفاته، مثل رواية "السكير" التي كتبها عام 1944 وصدرت للمرة الأولى عام 1950، ومجموعة "تقرير موضوعي عن سعادة مدمن المورفين" التي صدرت لأول مرة عام 1997، ومنها اختار المترجم والكاتب سمير جريس قصتَي هذا الكتاب الصادر عن دار الكرمة للنشر، واللتين تترجمان إلى العربية للمرة الأولى.
يقول جريس إن هانس فالادا، من أشهر الكُتاب الألمان في القرن العشرين. بدأ يستخدم الاسم المستعار "هانس فالادا" في عام 1920 عندما نشر أولى رواياته التي ترتكز على حكايتين من الحكايات الشعبية التي دونها الأخوان جريم. وفي سنوات الثلاثينيات اتجه إلى النقد الاجتماعي. بأسلوبه الموضوعي الجاف الذي يندرج في تيار "الموضوعية الجديدة" كتبَ عددًا من الروايات الاجتماعية الكبيرة التي حققت نجاحًا باهرًا، مثل رواية "ماذا بعد، أيها الرجل الصغير؟" (1932) التي عالج فيها الانحدار الاجتماعي الذي شهده موظف بسيط خلال الأزمة الاقتصادية التي اجتاحت العالم في عشرينيات القرن الماضي. وحققت هذه الرواية نجاحًا عالميًّا، تكرر في أعماله اللاحقة مثل "ذئب بين ذئاب" (1937) و"كلٌّ يموت من أجل نفسه فحسب" (1947)، وكذلك الرواية التي نُشرت بعد وفاته بعنوان "السكير". 

تترجمان إلى العربية للمرة الأولى
إيقاع لاهث 

ويؤكد أن أعمال "فالادا" لم تفقد راهنيتها وأهميتها حتى اليوم، فما زالت تصدر في طبعات جديدة، وما زالت تُترجم وتُعاد ترجمتها إلى عديد من لغات العالم، كما تحول عدد كبير من أعماله إلى أفلام سينمائية وأعمال مسرحية. قال عنه الروائي الكبير هرمان هسه، الحاصل على جائزة نوبل: "يستحق "فالادا" ثناءً عاليًا لكتابته عن الحياة بهذه الواقعية، وهذا الصدق، وهذا القرب". أما فالادا فقد قال عن نفسه: "كل شيء في حياتي ينتهي في كتاب". 
ويضيف جريس "يضم الكتاب قصتين طويلتين، الأولى بعنوان "تقرير موضوعي عن سعادة مدمن المورفين"، والثانية "ثلاث سنوات لم أكن إنسانًا". في القصة الأولى النابعة من سيرة الكاتب الذاتية يتابع القارئ في إيقاع لاهث محاولات مدمن هيروين الحصول على جرعة بعد نفاد مخزونه من المخدر، فيتصل بصديق له، مدمن هو الآخر، وينطلقان معا "للصيد" مثلما يسميان رحلة البحث عن المخدر القاتل. 
أما القصة الثانية، "ثلاث سنوات لم أكن إنسانا"، فتعرض لإدمان آخر عانى منه الكاتب، ألا وهو إدمان الكحول، إذ استيقظ الراوي ذات يوم من تلك الإغماءة العميقة التي كان يسميها نوما، فأدرك أنه لا يمكن أن يستمر على هذا الحال. فيبدأ في التفكير في الإقلاع عن الخمر، ويقبل في سبيل ذلك أن يدخل طواعية إلى السجن.
أما الناشر سيف سلماوي فيقول "بصراحة مُؤثِّرة ومُبهرة قلَّ نظيرها في الأدب العالمي، يخبرنا هانس فالادا عن السلوك القهري لمدمن المورفين، إذ عرف من خبرته الخاصة نشوة لحظة التعاطي والكارثة التي تليها.
ويشير إلى أن "تقرير موضوعي عن سعادة مدمن المورفين" تعود كتابته إلى ثلاثينيات القرن العشرين، إلا أن النَّص لم يُنشر قبل نهاية التسعينيات. أما النَّص الثاني في هذه المجموعة، والذي كُتب في الفترة نفسها، "ثلاث سنوات لم أكن إنسانًا"، فيتناول تجربة السجن، وهو أيضًا مُستوحى من حياة المؤلف. حيث ينجح فالادا على الرغم من أسلوبه الموضوعي الجاف الذي يندرج في تيار "الموضوعية الجديدة"، أو ربما بفضل هذا الأسلوب، في صياغة نصَّين آسرين، شيِّقين، وقويَّين في صدقهما، وسُخريتهما، وتميزهما في تاريخ الأدب الحديث.
مستهل قصة "تقرير موضوعي عن سعادة مدمن المورفين":
"حدث ذلك في تلك الفترة البرلينية العصيبة التي كاد المورفين فيها أن يقضي عليَّ تمامًا.
سار كل شيء سيرًا حسنًا طيلة أسابيع، إذ استطعت أن أخزن كمية كبيرة من "البنزين"، مثلما كنا نطلق على ذلك السم، وهكذا كنت متحررًا من أكبر هَمٍّ يسيطر على مدمن المورفين، هَمِّ الحصول على البضاعة. لكن كلما اقترب المخزون من نهايته، زاد استهلاكي له، كنت أريد أن أشعر مرة أخرى بالشبع التام، ثم - التوقف نهائيًّا عن ذلك. فلا بد أن أبدأ يومًا حياة أخرى. يتم التوقف الفجائي إذا كان لدى المرء القوة اللازمة. الشفاء يحدث أحيانًا على هذا النحو.
ولكن عندما استيقظت في ذلك الصباح وواجهت الفراغ، أدركتُ أن عليَّ الحصول على مورفين، بأي ثمن. قلق مؤلم سيطر على جسدي كله، يداي كانتا ترتعشان، وعطش فظيع كان يعذبني، لم أشعر بالعطش في حلقي فحسب، بل في كل خلية من خلايا جسمي.
أمسكت بالسماعة واتصلت بـ "فولف". لم أمهله وقتًا، وبصوت محتضر همست له:
- هل لديك بنزين؟ تعالَ فورًا! إني أموت!

رواياته ترتكز على الحكايات الشعبية التي دونها الأخوان جريم
من أشهر الكُتاب الألمان في القرن العشرين

واستلقيت مرة أخرى على الوسائد وأنا أتنفس الصعداء. هدَّأ جسدي المعذبَ الشعورُ العميق الاحتفالي بالخلاص، الشعورُ بالنشوة التي تسبق الاستمتاع: سيأتي «فولف» بالسيارة، وسأحقن نفسي - شعرت بالإبرة تنغرز، الحياة كلها جميلة الآن.
دق جرس التلفون الصاخب، كان «فولف» على الخط:
- لماذا أغلقت بسرعة؟ لا أستطيع أن أحضر لك بنزينًا، لم يعد لديَّ أي شيء. لا بد أن أذهب اليوم للصيد.
- حقنة، حقنة واحدة، وإلا سأموت يا «فولف».
- ولكن ليس عندي.
- عندك. أنا متأكد أنه عندك.
- كلمة شرف.
- أعرف من صوتك أنك أخذت لتوِّك حقنة. أنت شبعان على الآخر.
- آخر مرة الساعة الواحدة صباح اليوم.
- وأنا لم آخذ شيئًا منذ الحادية عشرة. "فولف"، تعالَ بسرعة.
- لا فائدة من ذلك. تعالَ أنت معي. أعرف صيدلية مضمونة. خذ سيارة، وسنتقابل في التاسعة في "ألكسندر بلاتس".
- هذا ليس مقلبًا منك؟ احلف!
- بأمانة يا "هانس". التاسعة في "ألكس".