تكرار الأخطاء الصحافية القديمة في العصر الرقمي

قدم الرئيس درسا لأي صحافي يعرض تنازلا في القيم، عندما علق على ورق الصحيفة ساخرا وموجها كلامه إلى صحيفة الدولة "ألا يخجل مدير تحريركم الاستجداء علنا؟"
مدونة القيم

 

حدث ذلك في وقت انهيار صحافي تام، لم يشح فيه الورق والأحبار فقط، بل إن الأفكار لم تستطع أن تنهض، كان رقادا مهلكا أصاب كل شيء في البلاد بالنحول والوهن، الصحف أصبحت نشرات موجزة غير مفيدة، لم تعد تكفي حتى لأخبار الرئيس والوزراء على عدم أهميتها لشعب يتضور جوعا.

في تسعينات القرن الماضي والعالم يدخل عصرا رقميا جديدا، كان العراق يعيش تحت طوق حصار أعمى، فلا أهمية لصحافة لم يصلها الكمبيوتر آنذاك.

لم يكن بمقدور تلك الصحافة أن تصنع أفكارا للحياة بينما الموت يقين لا يراوده الشك في بلاد تتضور جوعا، ليس الإنسان وحده من كان ينتظر موته، كانت اللغة قد أعلنت جفافها، ومارس صحافيون الصمت كنوع من الحل وهم يراقبون ظلم العالم برمته، فيما سقط آخرون في ضحالة الهتاف للهزيمة بوصفها نصرا!

أستذكر هذا المشهد المؤذي الذي مر على العراق بعد أكثر من ربع قرن، فيما تتجسد الضحالة اليوم في ضجيج إعلامي وتهريج وعبث صحافي وكتابات لا معنى لها وهي تدافع عن القتلة.

تحدث اليوم إعادة متعمدة للأخطاء الصحافية القديمة وكأننا خارج العصر الرقمي، وهذا يعني أن الخطأ سيكون تحت الشمس أكثر مما ينبغي ومثيرا لاستياء الجمهور، لأنه لا يمكن مواراته عن جيل الهواتف الذكية.

ولأن طبيعة الخطاب تكاد تكون نفسها في وسائل الإعلام العربية قبل ثلاثين عاما كما هي اليوم، ينبغي أن أعيد قصة حدثت آنذاك وتتكرر اليوم من دون وازع من خجل ليس في كتابة مقالات وحسب، بل في تهريج مستمر لأسماء إعلامية معروفة على مواقع التواصل الاجتماعي.

عرض آنذاك صحافي على درجة من الأهمية ويشغل منصب مدير تحرير في صحيفة الدولة، نفسه للاستجداء في أرذل صوره، عندما كتب مقالا على لسان زوجته تشتكي فيه من حالها بسبب شحة اليد وضيق الحال، فالحصار قد كسر العظم وأصاب أفراد العائلة بالوهن، وكل ما يتوفر لا يسد رمق الأسرة من الطعام، لا حديث عن مكملات إنسانية أخرى تخص البيت والملابس، كان الجوع هاجسا يوميا للعراقيين آنذاك.

برع “الصحافي المستجدي” في لغة المقال على لسان زوجته، ليأتي في اللحظة المناسبة رده عليها في مغالاة فاسدة ومهدورة الكرامة، يلوم فيها الزوجة على شكواها من صعوبة الحياة بينما يوجد قائد فذ وملهم للبلاد وظيفته إطعام الجياع واحتضان الفقراء في محنة البلاد، ناهرا زوجته عن الشكوى فسيأتيها “الخير” صباح الغد من أب رحوم هو “الرئيس القائد”! هكذا كتب وعينه أن يقرأ الرئيس مقاله ليغدق عليه المال!

كانت المفاجأة غير المتوقعة من الرئيس نفسه تقدم درسا لأي صحافي يعرض تنازلا في القيم، فقد علق الرئيس على ورق الصحيفة بقلم أزرق مطوقا المقال بخطوط دائرية ساخرة وموجها كلامه إلى صحيفة الدولة “ألا يخجل مدير تحريركم الاستجداء علنا؟”.

لم يتردد وقتها رئيس تحرير الصحيفة الذي كان يعد “الصحافي المستجدي” من أذرعه، وهو يرى تعليق الرئيس على المقال المنشور في صدر صحيفة يرأس تحريرها، إلا أن يتخذ القرار الأكثر فضائحية حينها، عندما طلب تصوير تعليق رئيس الجمهورية على المقال في نسخ متعددة وتوزيعه على كافة أقسام الجريدة للاطلاع على الفضيحة، وتعليق نسخة دائمة في لوحة الإعلانات يمر عليها المحررون والموظفون صباح كل يوم.

تبدو لي تلك القصة واحدة من أشهر قصص الاستجداء في الصحافة المعاصرة، وإذا كان يمكن تسويغها أنها حدثت في زمن صعب تهاوت فيه الكرامات تحت وطأة الحاجة، فإنها ستبقى مثالا من المهم العودة إليه كلما قرأنا لصحافي مقالا في الاستجداء، ويا لسوء حظ الصحافة، ما أكثرها اليوم.

كذلك مرت علينا منذ أزمة مقتل الصحافي السعودي جمال خاشقجي نماذج صحافية في الاستجداء المعيب والجهر بالأكاذيب بوصفها حقائق في مقالات لا يمسها الخجل وكأنها تستوحي قصة الصحافي المستجدي لعطف الرئيس. فقط غابت فكرة استلهام الحقيقة، وعرض صحافيون “خدماتهم الصحافية” بشكل مثير. مثلما ينشر في مقابلها يوميا حشدا من الهراء والعبث الإعلامي الذي يغبط رجال دين وقادة ميليشيات يتقلدون بلا وجل مناصب لوردات القتل.

لقد اقترح علينا آلن روسبريدجر رئيس تحرير صحيفة الغارديان السابق في كتابه الجديد “مَن كسر الأخبار” وهو يلعب على وقع كلمتي “كسر” و”عاجل” في اللغة الإنكليزية، تخلص الصحافيين من تقمص دور مشجعي النادي الذي يخسر بشكل دائم بينما جمهوره يستمر بالتشجيع “لا أحد يحبنا، نحن لا نهتم”.

فإذا كانت الصحافة، إلى حد ما، خدمة عامة، فيجب على الصحافي أن يفهم روح الخدمة العامة، وهو أمر ذو قيمة للمجتمع دون أن يحقق بالضرورة عائدا ماليا مباشرا. هذا يعني التفكير في هذا النوع من الصحافة بنفس الطريقة التي قد يفكر فيها رجل الشرطة أو قائد سيارة الإسعاف أو رجل الإطفاء. أنت، كمواطن، تتوقع أن يتم تشغيل هذه الخدمات بكفاءة، لكنك لا تتوقع أن يضطروا إلى تبرير أنفسهم على أساس الربح.

لكن روسبريدجر، مع أنه يعيش في كنف الديمقراطية ويفترض أن هناك العديد من الضوابط والتوازنات لمنع الأشخاص الأقوياء من القيام بأشياء ملتوية، لا يخفي أنه كصحافي بريطاني شكك في صحة ذلك يوما ما! هذا يدفعنا إلى مقارنة شك روسبريدجر بما يشعر به الصحافي في عالمنا العربي!

سبق وأن طالبت الصحافية البريطانية البارعة سوزان مور، الصحافيين بالتخلي عن “فكرة التردد” في مثل هذه الأمور، فالعالم يخوض حربا ذاتية بشأن المعلومات، والصحافيون ليسوا خارج هذه الحرب لأن الحقائق موجودة وفي الوقت نفسه يسقط الناس في الأكاذيب بسبب الأكاذيب المتصاعدة والمستمرة.