تلفزيونات تسقط في "الوحل الحواري"

القنوات الفضائية العربية تحتاج إلى إعادة اكتشاف فن الحوار المهذب من أجل التعرف على الأشخاص الذين يمتلكون أفكارا رؤيوية وإن كانت متعارضة.
كل نجوم “الوحل الحواري” في التلفزيونات العربية ليسوا أحاديي المزاج بالضرورة لكنهم لا يستطيعون التعلم من الآخر وتقبل فكرة الاستماع إلى رأيه، لذلك لديهم سبب دائم لقتال الآخر.

من حسن حظ “الذائقة البصرية” أن الحوارات التلفزيونية أضحت عن بعد تحت وطأة انتشار فايروس كورنا، وإلا شهدنا المزيد من الشجار بالأيدي والأقداح والأقلام وقلب الطاولات!

الكلام غير المهذب والشتائم والحماقة ومسّ الشخوص والأسماء والبلدان.. مازالت مستمرة في برامج تتذرع بالحوار، لكنها في حقيقة الأمر لا تضيف أي فائدة معلوماتية للجمهور.

لقد شهدنا زمنا غير مهذب في فن المناظرة التلفزيونية، ومن السهولة بمكان جمع سلسلة طويلة من الشجارات داخل استوديوهات البث التلفزيوني العربي على مدار العقدين الماضيين، كانت قناة الجزيرة رائدة في تشجيع المتحاورين على العراك، أكثر من إثارتهم على تبادل الآراء والدفاع عن القناعات! وبذلك قدمت مثالا لغيرها من الفضائيات العربية لصناعة مادة إعلامية غير مسؤولة، لمجرد إيصال خطاب سياسي أناني لا يعول على وعي الجمهور.

لذلك تحتاج القنوات الفضائية العربية أكثر من أي وقت مضى إلى إعادة اكتشاف فن الحوار المهذب من أجل التعرف على الأشخاص الذين يمتلكون أفكارا رؤيوية وإن كانت متعارضة. فليست من مهام البرامج التلفزيونية تقديم من يعرّفون أنفسهم بما يكرهون والنيل من الآخر.

أمر يثير الشفقة أكثر من التهكم عندما يتحدث اليوم البعض عن التاريخ بوصفه شاهدا على أحداثه، وليس محللا لما تم تداوله عبر المئات من السنين والشكوك التي ترافق صحة النقل والتدوين.

أي أهمية عندما يظهر مثقفون وإعلاميون وسياسيون ورجال دين عرب على الشاشات لمجرد التعبير عن ضغينتهم لأشخاص ولمراحل تاريخية مر عليها المئات من السنين. إنها وفق تعبير الكاتب ديفيد أولوسوغا وهو يناقش ثقافة الإلغاء بمقال في صحيفة الغارديان “حرب ضد الحقائق، وهروب من العقل بدافع من عبادة الغموض. إنه تآكل على المستوى الثقافي ولكنه مناسب على المستوى السياسي”.

عادة ما يُذكّر الكتّاب اليوم بالحكمة التي تركها لنا الكاتب الإنجليزي جون ميلتون قبل أربعة قرون، لأنها مازالت مثالية للاقتداء بها، ونحن نعيش عصرا إعلاميا محيّرا بعد أن ساد النقاش السام بشكل مخيف.

يؤكد ميلتون في كتابه “Areopagitica” الذي يمكن ترجمته إلى “بلا رقابة” على تقدم حرية الحوار، لكنه يرفض تراجع الضمير الشخصي عند التعبير عن الآراء، فالجدال لا يشمل الإلغاء بأي حال من الأحوال، والحوار لا يعني توجيه الإهانات الشخصية للمعارضين أو إسناد دوافع خيالية شريرة إليهم. إنه يعني مشاركة الأدلة والأفكار والفلسفات والاستماع و”تعلم الاستماع أصعب بكثير من الكلام”، وهذه كلها أمور قد تساعد المحاور على التراجع أو تغيير رأيه “هل يمكن أن نرى ذلك في أشهر برامج قناة الجزيرة، الاتجاه المعاكس؟”

تتفاءل الكاتبة البريطانية ليبي بيرفز في مقال لها بصحيفة التايمز، بأن يكون جون ميلتون مثالا للاقتداء بأفكاره بعد قرون وفي بداية عام جديد نعود فيه إلى الحوار المهذب، بعد أن شهدنا في كل وسائل الإعلام خلال السنوات الماضية نزعة استقطابية خشنة وعنيدة أسوأ من أي وقت آخر. عبّر عنها الفنان جورج كلوني بوصفه مراقبا ومهتما أكثر من كونه مخرجا أو ممثلا بقوله “أنا واقعي. أنظر إلى الأشياء وأقول أين توجد المشكلة. ما يحدث الآن هو الآتي: هناك الكثير من الكراهية في العالم، والكثير من الانقسام. نحن في مرحلة في تاريخ العالم حيث يتعيّن على الولايات المتحدة أن تلعب دورا مهما”.

وتساءل كلوني في حوار مع وكالة الأنباء الألمانية “إذا كان لدينا رئيس يقول إن الإعلام هو عدو الشعب، وينتشر هذا التوجه، فحينها يمكن لدوتيرتي في الفلبين أن يقول أيضا “حسنا، الإعلام هو عدو الشعب”.

لا يقتصر تحول الجدل إلى حرب شخصية في المحطات التلفزيونية العربية، فمن السهولة مشاهدة الصراخ على الشاشات في تلفزيونات الغرب بكلمات تصف الآخر بالأحمق والمغفل والعنصري والجاهل وغير الوطني والمنغمس في الذات ومصدر الهراء، بمجرد متابعة الجدل الحواري بشأن الشعبوية والعنصرية والرئيس الأميركي دونالد ترامب وبريكست والهجرة والإسلاموفوبيا ومعاداة السامية.

السقوط في “الوحل الحواري” سمة مميزة لمواقع التواصل الاجتماعي في ظاهرة سامّة متصاعدة ومستمرة، لكنها في البرامج التلفزيونية تعبر عن اللامسؤولية بشكل مخيف. ويمكن القول إن محطات فضائية أحيت ما كان يعتقد أنه مركون بالتركيز على الطائفية والعنصرية بوصفنا جميعا مصابين بها بالفطرة!

كل نجوم “الوحل الحواري” في التلفزيونات العربية ليسوا أحاديي المزاج بالضرورة لكنهم لا يستطيعون التعلم من الآخر وتقبل فكرة الاستماع إلى رأيه، لذلك لديهم سبب دائم لقتال الآخر. وكل الذي يجري لا علاقة له بحرية التعبير، مثلما هو طريق مفتوح يشجع على تراجع فهم التواصل بين الناس والاعتذار والاعتراف بالخطأ.

هناك عدوى تنقلها المحطات التلفزيونية من برامج الصراخ تحت مسميات الرأي والحوار والرأي الآخر، يمكن اختصارها بطريقة “أنت مخطئ، لذلك أنت شرير أو مجنون”. والمثير للتهكم أن مطلق هذه الاتهامات على غيره ليس بريئا أبدا وغير قادر على إثباتها والدفاع عنها بشكل منطقي!

صحيح أن هناك أسئلة غير مريحة يواجهها المتكلم، لكنها عندما تطلق بنية الحصول على إجابة مفيدة للجمهور وإيصال المعلومات، تتحول إلى أسئلة مريحة جدا، مثلما تكون إجابة من يستطيع أن يعبر عن أفكاره بطريقة سليمة وعميقة، وسيلة للثقة بالنفس والأفكار معا، وتسقط أي مجال لإطلاق الاتهامات عندما يكون الحوار مخلصا لجوهر تبادل المعرفة .

تنصحنا ليبي بيرفز بالعودة إلى كتاب ميلتون مع أنه صدر في القرن السادس عشر لأنه قد رسم آنذاك صورة لا تُنسى للسلام والنظام وفق منطق الحوار، وكان أكثر حساسية ثقافية من غالبية سياسيي وكتاب اليوم الذين لا تمل التلفزيونات من استضافتهم. دعك من رجال الدين إنهم أسوأ من أن يؤمنوا بفكرة الحوار والتسامح أصلا!