توفيق الحكيم بعيون نجيب محفوظ

الحكيم كان يمتاز بذكاء نادر وثقافة موسوعية مكنته من التقاط الجزئيات التي لا ينتبه كثيرون إليها سواء في التراث أو التاريخ أو الحياة.
صاحب "حديث الصباح والمساء" يرى أنه ليست هناك قواعد سابقة لفن الرواية
هناك أساليب كتب بها الأدباء، وكان لها تأثير جمالي خاص
الحكيم كان من جيل موسوعي أثرى الحياة الثقافية والأدبية والفنية

الكاتب د.عصام عبدالله (أستاذ العلاقات الدولية حاليا) حاور نجيب محفوظ عن أستاذه توفيق الحكيم الذي وصفه صاحب "الثلاثية" بأنه كان ساحر الحوار في الرواية العربية الحديثة. ونُشر الحوار في جريدة "صوت الكويت الدولي" في عدد الخميس 8 أكتوبر/تشرين الأول 1992 (وقد صدرت هذه الجريدة في لندن في 16 نوفمبر/تشرين الثاني 1990 برئاسة تحرير د. محمد الرميحي، وأغلقت في نوفمبر/تشرين الثاني 1992، أي أنها لم تستمر سوى سنتين).
وبطبيعة الحال يكون محاور نجيب محفوظ في حيرة من أمره، وهل سيجد جديدا عند صاحب "نوبل" ليسأله فيه، خاصة أن كاتبنا الكبير تم استنزافه تماما في حوارات ولقاءات وتسجيلات وأسئلة لا نهائية (وخاصة بعد نوبل 1988)، ولكن عصام عبدالله اختار زاوية جديدة تحفز كاتبنا الكبير على الحوار والحديث بشغف، فقد اختار أعمال توفيق الحكيم لنعرف رأي محفوظ فيها، وكيفية تلقيه لها.
وبدأ عصام عبدالله حواره بالسؤال عن رواية "عودة الروح" لتوفيق الحكيم وأين يضعها نجيب محفوظ، فيجيب: ما قرأته من روايات، قبل توفيق الحكيم، في أدبنا العربي الحديث، كان "حديث عيسى بن هشام" للمويلحي، "زينب" لمحمد حسين هيكل، "فتاة غسان" لجورجي زيدان، "المملوك الشارد" لمحمد فريد أبوحديد، وبعض ما ألّفه طه حسين والمازني من روايات.
وهي كلها أعمال روائية لها قيمتها وتأثيرها بالتأكيد، لكن حين قرأت "عودة الروح" للحكيم، شعرت بأننا انتقلنا من مرحلة إلى مرحلة جديدة، ومن مجال إلى مجال آخر.

نجيب محفوظ
من أعمال الفنان مبروك إسماعيل مبروك ومن مقتنيات الكاتب مصطفى عبدالله

ويضرب محفوظ مثالا برائعة ديستوفسكي "الأخوة كارمازوف". في هذه الرواية تجد أن الأسرة تذهب لمقابلة رجال الدين طلبا للنصيحة، من هنا يدخلك ديستوفسكي في أغوار عالم رجال الدين، ويعرض عليك – وبإسهاب – عاداتهم وتقاليدهم، كأنه يقص عليك رواية خاصة عن الكنيسة ورجالها، ثم تكتشف في النهاية أن روايته عن رجال الدين ليست لها علاقة بالرواية الأصلية، فرجال الدين قدموا النصيحة للعائلة التي سوف تخرج عنها وترى نتائجها.
ويتساءل محفوظ: هل تستطيع القول إن ما قدمه ديستوفسكي بخصوص رجال الدين خروجا؟ هذا من الممكن أن يقال، لو أن ديستوفسكي كان كاتبا متوسط الحال، ويكون ذلك سببا وجيها لرفض روايته، لكن عبقرية ديستوفسكي وسحر روايته جعلها – رغم الخروج الظاهر فيها – من أعظم الروايات التي كتبت في العالم. لذلك أكرر ما قلته في البداية أن الجديد في العمل الفني هو الفنان، فالفنان – في رأي محفوظ – أهم من المحافظة على أية تقاليد أو تقاويم.
إن صاحب "حديث الصباح والمساء" يرى أنه ليست هناك قواعد سابقة لفن الرواية، ولكن هناك "أساليب" كتب بها الأدباء، وكان لها تأثير جمالي خاص، فالرواية عملية سحرية من البداية وحتى النهاية. ويصح أن تجدها مضبوطة ومحكمة، وكل الشروط التي تفترضها في بناء الشخصيات، وفي الحبكة، وفي التعبير الفني، كأنها تطبق قواعد حرفية، لكنك تجدها ثقيلة ومرفوضة، لأن ليس بها أي سحر خاص، ومن هنا كان الحكيم فنانا ساحرا من الطراز الأول، وكل شيء وضع يده فيه كان يشع سحرا.
ويسأله عصام عبدالله؛ هل تقصد بـ "السحر" لغة الحكيم وأسلوبه الفني؟ فيجيب: نعم .. فالسابقون على الحكيم كانت أساليبهم التي تجمع بين التراث والمعاصرة في بنية واحدة، مثل أسلوب محمد حسين هيكل وطه حسين والعقاد .. إلى آخر هؤلاء الرواد، لكن الحكيم ظهر بلغة جديدة، أفضِّل أن أسميها لغة توفيق الحكيم، لأنها لغة خاصة به وحده، ولم يسبقه إليها أحد، فأسلوب الحكيم هو أسلوب الحكيم، ولغته عذبة وبسيطة وسلسة ومصرية أصيلة، ومع كل هذا هي ابنة شرعية للتراث العربي. وقد تجلت هذه اللغة في "الحوار" فقد كان الحكيم يجد سعادته في الحوار، في أحاديثه وكتاباته. وكل ما يذكر لرواياته هو الحوار، ويبدو أنه خُلق ليكون مسرحيا  قبل كل شيء.

ويستطرد نجيب محفوظ مجيبا عن سؤال "التراث" عند الحكيم وإلى أي درجة نجح في توظيفه توظيفا معاصرا، فيقول: كان الحكيم يمتاز بذكاء نادر وثقافة موسوعية مكنته من التقاط الجزئيات التي لا ينتبه كثيرون إليها سواء في التراث أو التاريخ أو الحياة، فمثلا تجده في مسرحية "أهل الكهف" يصور لك الناس الذين خرجوا من الكهف، فاكتشفوا أن عملتهم ليست متداولة. ورغم أنها أسطورة قديمة، ومذكورة في القرآن، ومعروفة لنا جميعا، إلا أن الحكيم استطاع بموهبته أن يلتقطها ليخاطب بها مصر الحديثة، ووظفها توظيفا معاصرا، لأن عينه كانت على الحاضر دائما، حتى أن "إيزيس" انقلبت عنده إلى ما بشبه ثورة شعبية، وأيضا "السلطان الحائر" رغم أنها حادثة تاريخية صغيرة إلا أن الحكيم استطاع أن يستخرج منها معنى من أجمل المعاني وأبلغها.
ويضيف صاحب "أفراح القبة" قائلا عن "السلطان الحائر": أنا شخصيا أعتبرها في قمة ومقدمة مسرحياته، ويصح أن نضعها عنوانا للمسرح الحديث.
ويرى محفوظ أن الحكيم كان من جيل موسوعي أثرى الحياة الثقافية والأدبية والفنية بإعطاء أمثلة في كل شيء، وحين تخصص كان للفن كله، مسرح، رواية، قصة قصيرة، لكن كان عليه أن يستقر بعد عناء الرحلة في بيته، في المسرح، ولن ننسى للحكيم أنه الكاتب الأول الذي جعل الدولة تحترم الفن والأدب وتخصص لهما ما يسمى بـ "التفرغ".
أخيرا يؤكد صاحب "العائش في الحقيقة" أن الحكيم عاش لفنه أولا وأخيرا، وكان أي شيء في الحياة بعد ذلك ثانويا، وفي خدمة هذا الفن، فكان الفن حياته، وحياته هي الفن.