تونس ومسؤولية بورقيبة وبن علي

هناك بالفعل ما يدعو الى الخوف على تونس بعد دخولها المجهول في غياب شخصية وطنية جامعة قادرة على التحكّم بمركب الدولة واخذه الى شاطئ الأمان.

غاب زين العابدين بن علي وطويت معه صفحة من تاريخ تونس التي دخلت مع اجراء الانتخابات الرئاسية والمفاجأة التي اسفرت عنها في رحلة الي المجهول. لعلّ اكثر ما  يشير الى هذا المجهول المنافسة التي ستكون في الجولة الثانية والأخيرة من الانتخابات بين شخصين لا يمتان بصلة الى الخيط الذي ربط بين عهدي الحبيب بورقيبة وزين العابدين بن علي من جهة وبين هذين العهدين ومرحلة ما بعد "ثورة الياسمين" التي أخرجت بن علي الى منفاه السعودي من جهة اخرى.

من يتحمّل مسؤولية المفاجأة التونسية التي جعلت الخيار بين أستاذ جامعي في القانون لا يمتلك رؤية سياسية محددة، هو قيس سعيد، ورجل اعمال واعلام متذبذب ليس معروفا ما الذي يريده، هو نبيل القروي، موجود في السجن على ذمّة القضاء؟

اذا عدنا الى خلف قليلا، نجد ان بورقيبة نفسه يتحمّل مسؤولية ما وصلت اليه تونس في ضوء حصر المنافسة بين شخصين لا تاريخ سياسيا لهما ولا تجربة من ايّ نوع في تحمّل المسؤوليات ذات الطابع الرسمي. فمؤسس الجمهورية التونسية الحديثة سقط في السنوات العشر الأخيرة من عهده، وربّما قبل ذلك، في اسر الرئاسة مدى الحياة. تدفع تونس حاليا ثمن سقوط بورقيبة في السنوات العشر الأخيرة من عهده...

المؤسف ان زين العابدين بن علي الذي قلب بورقيبة مع ضابطين آخرين هما الحبيب عمّار وعبدالحميد الشيخ، لم يتعلّم شيئا من تجربة سلفه، علما ان السبب الذي تذرّع به لازاحته واخذ مكانه في العام 1987، كان ضمور قدراته الجسدية والذهنية. تحدث زين العابدين في مرحلة معيّنة عن ضرورة تداول السلطة معدّدا مآخذه على سلفه. لكنّه لم يفعل شيئا من اجل انشاء مؤسسات ديموقراطية غير مرتبطة بشخص معيّن. على العكس من ذلك، اصبح اسير سيدة القصر ليلى بن علوي، زوجته الثانية، التي زجت بعائلتها في كلّ شأن تونسي، بما في ذلك كلّ ما له علاقة بالاعمال والصفقات.

مثله مثل الحبيب بورقيبة، صار بن علي اسير امرأة  اخذته الى الهاوية. في مرحلة معيّنة كان بورقيبة، او "المجاهد الأكبر" اسير وسيلة بن عمّار قبل ان يتحوّل، بعد طلاقه منها وتقدّمه في العمر، الى أسير ابنة اخته سعيدة ساسي...

ما هذه العقدة التونسية التي تحكّمت بكل من وصل الى الرئاسة، باستثناء المنصف المرزوقي الذي لم يكن يمتلك أي وزن سياسي من ايّ نوع، اللهمّ الّا اذا كان لعب دور الواجهة لحركة النهضة، التي تمثّل الاخوان المسلمين بطريقة او باخرى، يوفّر لرئيس الجمهورية التونسية وزنا ما ودورا توافقيا على الصعيد الوطني.

في حالات بورقيبة وبن علي والباجي قائد السبسي، كان هناك إصرار على البقاء في السلطة. من حسن الحظّ ان ذلك لم يؤد الى انهيار مؤسسات الدولة كلّيا. بقيت هذه المؤسسات صامدة وصولا الى التحدي القائم حاليا الذي ليس معروفا هل ستصمد المؤسسات التونسية في وجهه. هناك خوف على تونس جاء قيس سعيد رئيسا او فاز عليه نبيل القروي الذي يبيع التونسيين كلاما جميلا ويقدّم تبرّعات مثيرة للريبة.

اسّس زين العابدين بن علي للمرحلة الراهنة. لماذا؟ لسبب في غاية البساطة عائد الى انّه الغى الحياة السياسية في تونس وبات يحكم البلد بالشراكة مع زوجته الثانية التي صارت تتدخل في كلّ شاردة وواردة، خصوصا بعدما انجبت له ذكرا. هل الحياة السياسية والإصلاحات الواجب القيام بها في تونس من السخف الى درجة ان الكثير، في مرحلة معيّنة، كان مرتبطا بانجاب ليلي طرابلسي مولودا ذكرا؟

حاول الباجي قائد السبسي اصلاح ما يمكن إصلاحه، لكنّ تقدّمه في العمر لم يسمح له بذلك على الرغم من انّه امتلك كلّ النيّات الطيبة. فوق ذلك، اضطر الباجي في اثناء توليه الرئاسة الى الدخول في مساومات مع حركة النهضة وذلك بغية تفادي صدامات لا تحمد عقباها في وقت يظلّ عالقا في ذهن كل تونسي ما شهدته ليبيا وما زالت تشهده من مآس ليس معروفا هل ستكون لها نهاية في يوم من الايّام.

تحصد تونس ما زرعته منذ الاستقلال. في عهدي بورقيبة الذي استمرّ واحدا وثلاثين عاما وعهد زين العابدين الذي دام اقلّ بقليل من ربع قرن. لا يمكن تجاهل ما تحقّق في هذين العهدين من إيجابيات كثيرة، لكنّ ما لا التغاضي عنه هو تلك الفرصة الضائعة في تونس التي انطلق منها "الربيع العربي" الذي لم يكن في نهاية المطاف سوى خريف.

وضع بورقيبة الأسس لدولة حديثة ومتطورة. استخدم المنطق في كلّ ما فعله. لم يقتصر دوره على حماية حقوق المرأة والسعي الى قيام مجتمع مدني حقيقي. لم يتردد في قول ما يجب قوله للعرب والى جمال عبدالناصر بالذات عن كيفية التعاطي مع الواقع وما هي موازين القوى المتحكّمة بالعالم. للأسف الشديد انتهى "المجاهد الأكبر" نهاية لا تليق به. حصل ذلك مع زين العابدين بن علي ايضا، الذي شئنا ام ابينا، قدّم الكثير الى تونس، خصوصا في مجال الاقتصاد والتشجيع على قيام طبقة وسطى حقيقية.

تستحق تونس افضل بكثير مما هي عليه الآن. ولكن ما العمل عندما يتبيّن ان هناك قصورا لدى معظم الذين ترشحوا في انتخابات رئاسة الجمهورية. بلغ القصور مداه البعيد عندما تحدّث غير مرشّح عن ضرورة إعادة العلاقات مع النظام السوري في ظلّ جهل كامل لطبيعة هذا النظام ومسؤوليته عن قتل مئات آلاف السوريين. الأخطر من ذلك كلّه، ان قلّة من الذين كانوا مرشحين للرئاسة كانت تعرف طبيعة النظام السوري ومدى ارتباطه العضوي بايران التي ليس لديها ما تستثمر به غير سلاح اثارة الغرائز المذهبية.

الخوف كلّ الخوف ان تكون تونس مقبلة على مرحلة في غاية الصعوبة، فاز قيس سعيد او نبيل القروي، وان تكون هذه المرحلة مرحلة القضاء على ما بقي من مؤسسات الدولة. لعبت هذه المؤسسات دورها في منع انزلاق تونس الى ما يشبه ليبيا في اعقاب لجوء زين العابدين بن علي الى المملكة العربية السعودية في الرابع عشر من كانون الثاني – يناير 2011. ماذا اذا تبيّن ان قيس سعيد ليس سوى واجهة أخرى للنهضة... وماذا اذا تبيّن ان نبيل القروي لا يمتلك أي علاقة بالسياسة، بل هو مجرّد رجل اعمل واعلام لديه بضاعة يريد الترويج لها...

هناك بالفعل ما يدعو الى الخوف على تونس بعد دخولها المجهول في غياب شخصية وطنية جامعة قادرة على التحكّم بمركب الدولة واخذه الى شاطئ الأمان.