توني بينيت مغني أسطوري سد الفجوة بين الأجيال بلا تنازلات

الراحل كان يُعتبر آخر ممثل حي لجيل عمالقة وأساطير الغناء العالمي مثل فرانك سيناترا، دين مارتن، نات كينغ كول، آل مارتينو وبري كومو، كما وثّق بينيت تأريخ الموسيقى الأميركية من خلال أغانيه لأكثر من سبعة عقود.

رحل عن عالمنا الجمعة 21 يوليو/حزيران 2023، المغني الأسطورة توني بينيت، قبل أيام من عيد ميلاده الـ97، في نيويورك، حسبما أفادت المتحدثة عنه سيلفيا وينر لوكالة أسوشييتد برس، دون ذكر تفاصيل عن سبب الوفاة. خلال سِفره الفني الطويل، تراوحت قائمة المعجبين بتوني بينيت من فرانك سيناترا إلى ليدي غاغا. لذا كان يُعتبر آخر ممثل حي لجيل عمالقة وأساطير الغناء العالمي مثل فرانك سيناترا، دين مارتن، نات كينغ كول، آل مارتينو وبري كومو. كما وثّق بينيت تأريخ الموسيقى الأميركية من خلال أغانيه لأكثر من سبعة عقود. 

سيرة ذاتية واحدة لم تكن كافية لإستيعاب ثراء حياته الطويلة المليئة بالأحداث والتجارب التي إكتسبها منها. فقد كتب توني بينيت كتابين عن حياته. الأول بعنوان "الحياة الجيدة" هو بالـ72 من العمر، والثاني بعنوان "الحياة هدية" وهو بالـ86 من العمر، وهما يشهدان على حقيقة أنه كان محباً الحياة، ووفياً لإلتزاماته تجاه نفسه وأسرته وأصدقاءه وجمهوره. فلطالما كان بينيت صادقًا مع نفسه، وربما يكون الفنان الأميركي الوحيد الذي إمتدت مسيرته المهنية أكثر من سبعة عقود. فقد أصدر أكثر من 70 ألبوماً وباع 50 مليون قرص، حصل بفضلها على19 جائزةGrammy، و7 جوائزEmmy، إضافة الى جائزة "Lifetime Achievement"، وهناك نجمة بإسمه في مَمشى المشاهير في هوليوود، كما حصل على جائزة "Jazz Master" من مؤسسة "National Endowment for the Arts". حقق كل ذلك بالبقاء وفياً لفنه. كان شعاره "أنا لا أغني أغنية مكتوبة بشكل سيء"، لذا قام بغناء أروع أغاني "Great American Songbook" بصوته العميق الثري الدافيء، وعَبّرعنها لحناً وروحاً، وأعطى كلماتها عمقاً وعاطفة، حتى باتت أغانيه معياراً لموسيقى الجاز. لقد كان رجلاً نبيلاً، وشخصية أنيقة من الرأس إلى أخمص القدم.

ولد توني بينيت بإسم أنتونيو دومنيك بنيديتو، في3 أغسطس 1926 في حي كوينز بنيويورك، لوالدين من أصول إيطالية. كانت والدته خياطة وأبوه بقال، وقد شجّعاه على دراسة الفن والأدب، وإستمتعوا بغناءه في المناسبات العائلية، وسمحوا له بالاستماع إلى موسيقى الجاز. ظروف الحياة الصعبة ثم وفاة أبيه المبكرة، دفعته للغناء وهو صغير لجني المال، بينما كان لا يزال يحضر مدرسة نيويورك للفنون الصناعية. شارك في أغلب مسابقات الهواة التي قدمت جوائز مالية، وكان غالباً ما يفوز بها، ومع ذلك إضطر للترك الدارسة والعمل مراسلاً لإحدى الصحف. بعد ذلك تم تجنيده في الجيش عام 1944، وهناك إنضم الى فرقة غناء عسكرية وأطلق على نفسه إسم جو باري، وواصل العمل به بعد عودته إلى نيويورك، وزار بضعة فصول دراسية للتدريب على الغناء الكلاسيكي. عام 1949 إلتقى بالفنان الشهير بوب هوب، الذي تبنى موهبته، وأعطاه الإسم الذي سيشتهر به "توني بينيت". كانت أغنيته "Because Of You" التي أطلقها عام 1951 خطوته الأولى في طريق النجاح، حيث باعت مليون نسخة. قام بعدها بتقديم مجموعة من الأغاني الشهيرة مع فرقته الخاصة وعازف البيانو رالف شارون، أو مع فرقة كونت باسي، وظل يتمتع بشعبية كبيرة. إستمرت نجاحاته حتى منتصف الستينيات، حيث إشتدت المنافسة بينه وبين أقرانه، فقدم بين1962 و1963 أغنياته "The Good Life" و"I Left My Heart in San Francisco"، واللتان لاقتا نجاحاً باهراً، لكن بعد ذلك أصبح الطريق وعِراً.

رغم مسيرته المهنية الناجحة، مَر بينيت أيضاً بأوقات عصيبة لم يستطع التعامل معها. عام1979 إنقلبت حياته رأساً على عقِب، بسبب مشاكل مع دائرة الضرائب، فعانى الاكتئاب، وأدمن المخدرات. قال مرة في مقابلة: "مَرَرت بلحظات مظلمة وشعور بإنعدام الأمان، لكني تمكنت من الخروج منها بمساعدة مَن أحبهم". حينها قام بطلب المساعدة من إبنيه الراشدين، فأصبح إبنه داني مدير أعماله، وقام بترتيب صعود والده الجديد. فقد أحضره إلى نيويورك، ونَظّم شؤونه المالية، وحصل له على ظهور في العرض الشهير لديفيد ليترمان، وأقنع شركة كولومبيا بالتعاقد معه، فأطلق عام 1986 ألبوماً بعنوان "فن التمَيّز".

من خلال ظهوره في قناة MTV وغيرها من قنوات الشباب، سرعان ما وصل إلى جمهور الشباب، رغم أداءه أغاني قديمة. في عيد ميلاده الثمانين، أهدى لنفسه ألبوماً غنى فيه الكلاسيكيات مع نجوم موسيقى البوب والجاز الذين كانوا أصدقاءه، مثل الملكة لطيفة، نورا جونز، أريثا فرنكلين، آمي ونهاوس التي حاول مساعدتها للتخلص من الأدمان وحزن كثيراً لوفاتها المبكرة بعد بضعة أشهر من تسجيلهما معاً أغنية "Body and Soul"، وليدي غاغا التي جمعته بها صداقة فريدة من نوعها، رغم فارق السن والجيل وطبيعة المدرسة الفنية. صداقة إستمرت حتى وفاته، وكانت صادقة عميقة، لدرجة أنها لم تكن تنقطع عن الإتصال به أو زيارته بشكل شبه يومي بعد إصابته بالزهايمر. هو بدوره لم تكن تعود له ذاكرته سوى في مواقف معينة، منها سماعه لأغانيه وأغاني أصدقاءه القدامى، أو رؤيته لليدي غاغا! 

بعد تشخيص إصابته بالزهايمر وهو في الـ90 عام 2016، واصل بينيت عطاءه لبعض الوقت، بل يمكن القول أنه ربما إحتفل بذروة مسيرته في تلك الفترة، حينما عاد وتمكن من كسب جمهور أصغر سناً، ليصبح أكبر مطرب بالتأريخ يصل للمرتبة الأولى بتسلسل ألبومات الولايات المتحدة في دويت مع ليدي غاغا. فقد أطلق معها ألبومين هما "Cheek to Cheek" و"Love for Sale"، قبل وقت قصير من قراره بإنهاء مسيرته المهنية في صيف2021 وهو في الـ95. كان ذلك في حفل مشترك مع ليدي غاغا بعنوان"One Last Time" في قاعة الموسيقى في راديو سيتي في نيويورك، حيث وقف على خشبة المسرح بثقة ومزاج جيد وسط تصفيق حار، وقدما معاً عرضين موسيقيتين نفذت تذاكرها بالكامل، وبعد أن إختتما العرض بأول أغنية سجلاها سوية عام2011 وهي"The Lady is a Tramp"، رائعة الأسطورة سيناترا، رافقت غاغا أستاذها وصديقها البالغ من العمر95 عاماً عند مغادرته لخشبة المسرح. وقد قالت لاحقاً في مقابلة مع برنامج 60 دقيقة: "أن أكون المرأة التي رافقته عند مغادرته ووداعه للمسرح، هذا كل ما أردته".

بعد ذلك نشر بإنتظام مقاطع فيديو مِن غرفة معيشته وهو يغني كلاسيكيات الجاز. وكان يرسم صورة جديدة كل يوم، فقد كان ناجحاً كرسام أيضاً، وتمت إضافة ثلاثة من أعماله إلى مجموعة متحف سميثسونيان.

 كما إستمر بدعم المشاريع الخيرية، فقبل أيام من عيد ميلاده الـ95 وقف بينيت بمنطقة أستوريا في حي كوينز في نيويورك، حيث بدأ كل شيء بالنسبة له في3 أغسطس 1926، وأطلق حملة لمؤسسته الخيرية لإستكشاف الفنون، دعماً لتوفير دروس الفنون في المدارس الثانوية بجميع أنحاء الولايات المتحدة، مع منشورات دورية عبر الإنترنت، وقد بدأ ذلك عام 1999، عندما أسس "مدرسة فرانك سيناترا للفنون" مع زوجته سوزان. قال بينيت عن سيناترا مرة: أنا مدين له بمسيرتي المهنية، فقد غير حياتي. في مقابلة مع مجلة "لايف ماغازين" أكد أنني أفضل مطرب سمعه في حياته. نعم كنت حينها مطرب معروف، لكن ليس الأكثر شهرة، ومنذ ذلك الحين بيعت ألبوماتي الموسيقية في جميع أنحاء العالم".  

ربما أبلغ وصف لتوني بينيت، هو الذي كتبته صحيفة نيويورك تايمز عنه في التسعينيات: "توني بينيت لم يقم فقط ببناء جسر فوق الفجوة بين الأجيال، بل قام بسَدِّها تماماً، ودون تقديم تنازلات".