توهّجُ المشهد الشعري في نصوص تقليلية

القصيدة التقليلية تتطلب صناعة مشهد شعريّ قصير متحرك، وهذا يتطلب استحضار وتداخل الأزمنة والأمكنة وشحنها بالمزيد من المشاعر المتأججة.
المشهد الشعري يحتاج إلى وعيّ متّقد يسبح في خيال خصب منتج ذكيّ
الذات الشاعرة تتحدث عن الآخر والذي قد يكون الوطن / الرجل / الأمل / الهدف السامي / أو الذات الشاعرة نفسها

القصيدة التقليلية تتطلب صناعة مشهد شعريّ قصير متحرك، وهذا يتطلب استحضار وتداخل الأزمنة والأمكنة وشحنها بالمزيد من المشاعر المتأججة، يحتاج الى وعيّ متّقد يسبح في خيال خصب منتج ذكيّ يعرف كيف يصيغ المقطع الشعري وأين يضع المفردات ويصبغها بضربات رشيقة تبهر وتستفزّ وتنشتل المتلقي من الواقع، وتأخذه إلى واقع آخر يجد فيه المتعة النفسية ويتلمظ اللذّة الإبداعية. 
هذا المقطع سيكون موجزا مركّزا مرمّزاً مكثّفا يمتلك من المقدرة ما يحرّك به وعي المتلقي وينفذ في العمق الإنساني، فكلما تحرّرت مخيلة الذات الشاعرة عن قيود الزمن وابتعدت عن السطحية والمباشرة وجنحت إلى ما هو غير مألوف ومعتاد، امتلك  النسيج الشعري إضاءات وتوهّجات ودلالات تجعله ينفتح على تأويلات متعددة. إنَ السياحة بين ومضات الشاعرة الفلسطينية رحمة عنّاب إنّما هي سياحة أو نزهة بين جمالية اللغة وصدق المشاعر وجموح الخيال، وهي أيضا ترنيمات إنثوية يدثّرها صراع نفسيّ يرقد على منابع من العواطف والحرمان والجمال النقيّ .
 سنختار بعض هذه النصوص التقليلية ونحاول قراءتها، ونستشفُ ما تحمله من ذات مشتعلة بالعواطف وصوت شعري إنثوي رقيق يستطيع صناعة المقطع الشعري بصور تتوالد لا ينتابها الترهّل أو الخمول وينفذ عميقا في النفس ويجعل المتلقي يقف عندها منبهراً  .
أولاً :
يا لمواقيتكَ .. !!
تُضاجعُ عزلتي
فـ تنتشي الساعاتُ العاقرة .
تبدأ الشاعرة هنا مستخدمة حرف (يا) للنداء للتعجبي، في محاولة لإثارة الذات الأخرى والطلب في تلبية هذا النداء بسبب معاناتها وما يعتريها واضطراب النفس وشعورها بالحاجة إلى إشباع هذا الفراغ الروح وسدّ منافذ الوحشة، وبعدها تأتي مفردة (المواقيت) وهو المنادى المتعجب منه، وهنا سنستشفُ بأنّ هناك مواقيت زمانية وأخرى مواقيت مكانية تحاول أن تعيد الذات الأخرى إلى هذه المواقيت الزمكانية وتشحذ ذاكرته بهذا الكمّ الهائل من الذكريات التي تطمح إليها الذات الشاعرة والتي تكتب بوعيّ تام وتحت سلطة العقل، فكأنّها لاعب شطرنج يعرف كيف يحرّك أدواته وأين يضعها، أي أن اختيار المفردة اختيار مدروس وليس عشوائياً. 
ثم يأتي المقطع الآخر (تضاجعُ عزلتي) في محاولة للتورية والتغريب مستخدمة أنسنة الأشياء عن طريق لغة هامسة تمتلك روحاً نقيّة معذّبة تتدفق مشاعرها هادئة تفيض متوهّجة عذوبة وحناناً، فلقد استطاعت الذات الشاعرة أن تؤنسن عزلتها التي أنزلت عليها الهموم والأحزان وجعلت من فراشها مكاناً موحشاً تتكاثر فيه الأشواك، وكأنّ لا شيء ينادمها إلاّ هذا القلق الوارف والمخيّم على سريرها البارد، وهذا الحزن الأبكم الذي كان ومازال وسيبقى يرافقها ويطرد النوم من لياليها الطويلة. 
ثم يأتي المقطع الأخير (فـ تنتشي الساعاتُ العاقرة) وكأنّ مضاجعة العزلة كان نتيجتها هذه النشوة في لحظة الجدب، إنّها محاولة البحث عن السكينة والإطمئنان في زمن يفتقد إلى النماء والحياة والحبّ والوفاء، وإشباع اللحظات والتخلّص من ثقل الزمن وسطوة المكان. 
إنّ الذات الشاعرة تتحدث عن الآخر والذي قد يكون (الوطن / الرجل / الأمل / الهدف السامي / أو الذات الشاعرة نفسها)، لقد حمل هذا النصّ من سمات الأيروسية الشيء الكثير وحاولت الذات الشاعرة أن تقي نفسها بهذه الرمزية المحببة ومارستها بحذر شديد فكان أن تورّدت المفردات فأنهمر كلّ هذا العجب العجيب .
ثانياً :
حيثكَ أذهب
أخلع نعل الخوف
وأبحر باستقامة كسفينة عصية
لا تثنيها مجاهيل العذاب .
بهذا المقطع النصّي المتحرك تبدأ الشاعرة مقطوعتها الثانية (حيثكَ أذهب) في محاولة لإثارة مشاعر المتلقي وأن تُلهب الوجدان في لغة يغلب عليها طابع التصوّف والحكمة والصفاء الروحي والعشق الإلهي والتعلّق والتماهي مع المحبوب، وهنا أيضا نجد أنّ الذات الشاعرة واعية لما تريد قوله وتكتب تحت سلطة العقل، إنها تدرك ما تريد لهذا فهي تطرد الخوف من أعماقها وتتخلّى عنه وعن هواجسه وقلقه من خلال هذا المقطع النصّي المتحرّك أيضاً (أخلعُ نعلَ الخوف) من خلال تناص قرآني جميل وحالة من التطهّر الروحي والخلاص من منغّصات هذا الواقع المأزوم. 
وفي مقطع نصّي متحرك آخر نجد الإرادة الصلبة والإصرار على الوصول إلى المعشوق رغم المصاعب وتلاطم أمواج الواقع (وأبحر باستقامة كسفينة عصية) في محاولة الهروب والإرتقاء والإطمئنان. وفي المقطع النصّي الأخير وهو متحرّك أيضاً تحاول الذات الشاعرة أن تدخل مرحلة التطهّر والخلاص والسعي الحثيث للبحث عن السكينة والوصول إلى حالة الصفاء والتلذّذ باللقاء، لا تثنيها مجاهيل العذاب. إنّ لغة الشاعرة هنا نجدها مشحونة بالعذوبة والرهافة وعامرة بالتلميح والتقشف والأرتقاء.  

السردية التعبيرية
لغة أنيقة 

ثالثاً :
صوتي ذرّته الريح يرتد صداه على ركح ناي ليل حزين .
إننا هنا أمام شعر ليس عاديا يقتصر على التكثيف اللغوي والعذوبة فقط، إنما هو عبارة عن ضربات سريعة متتالية تنفذ عميقا في النفس، فنحن هنا نرى فكرة متجلّية عبر هذا الزخم الشعوري وفي مقطع نصّي خالي من الحشو والزوائد اللفظية، مما جعله متماسكا بلا زيادة أو نقصان. 
ففي هذا المقطع نجد الصورة الحسّيّة للشعرية الشعرية قد تجسّدت على شكل نمط سمعي تجلّى من خلال استخدام (صوتي / الريح / صداه / ناي) فهذه المفردات تنهض بمهمة التعبير عن الأجواء المحتشدة داخل النصّ وتجسّد معالمه وملامحه بحيث تجعل المتلقي يعيش داخل هذه الأجواء ويتفاعل معها، فالشاعر الحقيقي هو الذي يقبض على اللحظة الشعرية ويطوّع اللغة من أجل أن يدغدغ وجدان المتلقي ويثير دهشته، وبهذا نستطيع أن نستمع بخشوع إلى الموسيقى الداخلية من خلال صورتها الشعرية ومفرداتها التي نقلت الينا هذا التأثير والإيحاء وفتحت لنا أبواباً للتأمل والتأويل، وفي نفس الوقت نقلت إلينا انفعالات الذات الشاعرة في لحظة معينة وخاطبت من خلال ذلك الإنسان الموجود في داخلنا .
رابعاً :
أكتبكَ نصاً محموم الحنين ..
إنّ ايّ نصّ شعري لا بدّ أن ينتج عن انفعال وتدفق شعوري عنيف كي يستطيع إثارة المتلقي، ويجب أن يكون هذا النصّ عبارة عمّا يشبه الحلم، وتستطيع الذات الشاعرة أن تستنبط وتستوعب هذه المشاعر والعواطف وتعيد صياغتها نتيجة التأمل العميق في الذات وتقوم على ربط كلّ هذا بنصّ يعبّر بوضوح عن الحالة النفسيّة الداخلية للذات الشاعرة، وهنا نجد أنّ هذه الذات الشاعرة قد قامت بتحويل هذه المشاعر المحمومة إلى تدفق لغوي يحمل من الموسيقى وصورة فنيّة زاهيّة ساعدت في إبراز المعنى الذي سعت إليه، وجسّدت لنا في نفس الوقت المعاني النفسيّة والعاطفية والتجسيديّة معبّرة عن تجربة واقعية أو ذهنيّة .
خاسماً :
الصباحات الناعمة لا توقظها إلا طراوة كركرات أصواتنا السخيّة تغسل ستائر حزن الانتظار الباسل تعاقرنا حجّة أفراح يُثاقلها أملا مخمليّ العفاف.
هنا تتجلّى السرديّة التعبيريّة بأوضح صورها من خلال هذا البناء الجمليّ المتواصل والرصين، حيت تعظيم طاقات اللغة والانزياحات اللغوية العظيمة والخيال الدكتاتوري الجامح والزخم الشعوري العنيف، فالسرد التعبيري هنا لا يعني السرد الحكائي القصصي إنما هو السرد الممانع للسرد متجلّياً من خلال الانزياح في اللغة عن واقعيتها وإلباسها لباس الخيال واللاواقعية، والرمزية العميقة واللغة العذبة المتدفقة في نصذ نثري (الكتابة الأفقية بطريقة الفقرات المتواصلة بدون فراغات أو تشطير أو ترك نقاط متعددة بين الفقرات النصّية أي أن الكتابة تكون بطريقة الكتلة الواحدة المتوهّجة). 
هنا نجد الذات الشاعرة قد حلّقت عاليا وابتعدت عن الجفاف في اللغة وأخذت معها المتلقي إلى هذه السماوات البعيدة يسبح في عالم رطب نديّ من الخيال، وفي نفس الوقت حافظت على مستوى الإيحاء الرمزي وخلقت ألفة ما بين النصّ والمتلقي، وكذلك حققت النثرشعرية أي الشعر الكامل في النثر الكامل، وهذا ما يجعل النصّ السردي التعبيري يختلف اختلافا كبيرا عن قصيدة النثر (والتي يجب أن تسمّى النصّ الحرّ) والتي يطغى فيها الشعر على السرد. 
إنّ الكتابة بالسرد التعبيري يحقق التجلّي الواضح للشعر في النثر وكذلك يحقق الغايات الكتابية والجمالية مما يجعله الأقرب الى المتلقي .
سادساً :
ضميركَ الغائب
لا يشبه أناقة لغتي.
هنا نجد الحضور اليقيني للذات الشاعرة وكأنّها تقول "أنا أفكر فأنا موجود"، فهي تدرك يقينيا وجودها الفكري في محاولة لإثبات الذات الواعية وبأنّ وجودها حقيقيّ لا يدانيه أي ّشكّ، فهي تحاول إضفاء صفة النقص والقصور (الغائب) على الذات الأخرى وحضورها المتمثّل من خلال الأفكار والسلوكيات وطريقة تفكيرها التي تعبّر عن شخصيتها (أناقة لغتي)، فهي من المراحل المتقدمة التي يعيشها الإنسان حينما يمتلك لغة أنيقة (الشِعر) يستطيع من خلالها ترجمة مشاعره وأحاسيسه وبثّها للمتلقي ليستمتع بها ويعيش أجواءها ويتفاعل معها .