تيار أساسي يعاني من أوهام كهف مزمنة

الباحث صلاح سالم يؤكد في كتابه "كهف التأسلم" أن أميركا تزايد على طرف، وتبتز طرفا آخر تحقيقاً للعوائد المالية، وترسيخاً لهيمنتها الاستراتيجية.
مقاربة تاريخية ونقدية يسعى إليها الباحث في كتابه الذي جاء بمثابة بمنزلة استجابة لتحديين 
السلاطين المسلمون كانوا يتقاتلون فيما بينهم والتتار والمغول على مشارف بغداد
الجماهير الواسعة انتصرت للفقيه مراراً، وأدانت المفكر تكراراً

هل تذكرنا اللحظة التاريخية التي يمر بها العالمان العربي والإسلامي بأخريات سابقة؟ حيث كان السلاطين المسلمون يتقاتلون خلالها فيما بينهم والتتار والمغول على مشارف بغداد. أو كان الصليبيون يشنون الحملة إثر أخرى على الشمال العربي الممزق بين ولاة وأمراء لا يفهمون في شؤون الحكم والاستراتيجية شيئاً، بل يتصورون أن عدوهم سوف يشبع بهضم جيرانهم، ثم يدير رأسه عنهم. أو كان الأمويون يتحالفون خلالها مع بيزنطة البعيدة عنهم في مواجهة العباسيين المجاورين لبيزنطة، فيما يتحالف العباسيون مع حكام الدول الإقليمية الناشئة في غرب أوروبا من رحم الإمبراطورية الرومانية المقدسة، ضد الأمويين في الأندلس.
هذه اللحظات التي أدانها التاريخ اللاحق عليها، وفقا للباحث صلاح سالم في كتابه "كهف التأسلم" الصادر عن مؤسسة مؤمنون بلا حدود، تشبه لحظتنا الآن حيث باتت أميركا تزايد على طرف، وتبتز الطرف الآخر، تحقيقاً للعوائد المالية، وترسيخاً لهيمنتها الاستراتيجية وتكريساً لاستثنائية إسرائيل النووية. مؤكدا "إنها اللحظة التي أسهم في صنعها وعي التأسلم بقصر نظره الديني، وعقده المذهبية، وأوهامه الفكرية، التي لا تنبع من فكر أسطوري ساذج أو بسيط، وإلا هان التصدي لها، بل تتجذر في مقولات وتجارب وخبرات تمتد في تراث أسلاف ولو في الماضي البعيد، جرى انتقاؤها من بين مقولات وخبرات وتجارب عديدة، بعد استبعاد أخرى مناوئة، كانت قائمة أو حتى ممكنة".
هذه المقاربة التاريخية والنقدية التي سعى إليها سالم في كتابه الذي جاء بمثابة بمنزلة استجابة لتحديين رئيسين: الأول يمكن وصفه بـ "المزمن" إذ يندرج في سياق القضية الكبرى "تجديد الفكر العربي"، خروجاً من كهف التأسلم، بكلّ أوهامه التي ملأته عن آخره، ففاض علينا بالنزعات الطائفية، وجماعات العنف الدينية التي باتت تمزق نسيج مجتمعاتنا، وتهدر نمط تمدننا. والثاني يمكن وصفه بـ"الحاد" ويتمثل في خطر قيام حرب إقليمية بين عموم العرب السنة من ناحية، وإيران بأذرعها الشيعية من ناحية أخرى، يفضي اشتعالها إلى العبث بمقدرات المنطقة كلها، بغض النظر عن أطراف تلك الحرب المباشرين، وعن تفاصيل ووقائع ما يمكن أن يجري فيها.

الفقيه التقليدي، العاجز جوهرياً عن إعمال العقل في النص، يبقى قادراً دوماً على هزيمة المفكر الحداثي

يوضح سالم أن الفهم الذي انطلق منه وأكد عليه في أبواب الكتاب الثلاثة "يوتوبيا الخلافة الدينية، وعقدة الهوية الخالصة، وأسطورة الجهاد الحربي"، يشير إلى أنّ مواجهة التحدي الثاني؛ أي الصراع الإقليمي، لن يكون ممكناً تماماً إلا بالنجاح في التصدي للتحدي الأول؛ أي تجاوز الوعي المذهبي والحس الطائفي القار في كهف الإسلام السياسي، إلى فضاء وعي إنساني وحس نقدي يرسمان معالم إسلام حضاري، يمكن منطقتنا من بلوغ حال الانسجام والسلم المطلوبين للتنمية والتقدم.
يرى سالم أنه عادةً ما ترتبط الكهوف بالأوهام، فلكلّ وهم كهف يعيش فيه، ولكلّ كهف أوهامه التي يمتلئ بها، ولعل أشهر تلك الأوهام هي التي تحدّث عنها فرنسيس بيكون، مؤكداً أن لكل شخص كهفاً خاصاً به يعترض ضياءَ الطبيعة ويشوهه؛ أي يُحرِّف فهمه للحقيقة والعالم، إما بسبب الطبيعة الفريدة لكل إنسان، وإما بسبب تربيته وصِلاتِه الخاصة، أو لطبيعة ذهنه القلق المتغير، قياساً إلى أذهان أخرى أكثر رصانة واطمئناناً. وإذا كان كهف بيكون يصحّ على صعيد الفرد، فالأغلب أنه يصح على صعيد الجماعة الثقافية، التي يمكن أن تُطبع بميسم الذهن الفردي، فتصبح بعض الثقافات أكثر ميلاً إلى القلق، وأكثر استسلاماً للأوهام من سواها.
ويضيف أن تياراً أساسياً في الجماعة الثقافية العربية يعاني من أوهام كهف مزمنة، على رأسها ما يتعلق بذلك المجد التاريخي الذي فقدته الأمة، والعز الحضاري الذي ضاع منها، فقط بسبب كراهية الغرب المسيحي لها، بل تآمره الدائم عليها، خصوصاً في صورته الحديثة الصاعدة من قلب المادية الملحدة، حتى تمكن من إضعاف العقيدة في نفوس المسلمين والسيطرة عليهم. ومن ثَمَّ لا سبيل إلى استعادة ذاك المجد وذلك العز إلا بالإسلام الأول، الذي كان قد أسس لهما. 
يستقي ذلك الوهم مشروعيته من نمط التطور التاريخي العربي، فالحضارة العربية ارتبط مولدها بنزول الإسلام، ومرحلة ازدهارها الممتدة لأربعة قرون توازت مع انتشاره، ما يذكي القول بأنّه كان سرها الكبير، ثم أخذت في الجمود والتدهور مع تباعدها الزمني عن لحظة انبلاجه. أمّا نمط التطور الحضاري الأوروبي، فيعكس خبرة نقيضة تماماً؛ حيث نمت الحضارة مع تباعدها عن مصدر إلهامها الديني، فالمرحلة الحضارية التالية لانتشار المسيحية راوحت بين أفول صاحب سقوط روما وبين انحطاط ساد العصور الوسطى الإقطاعية التي نمت وترسَّخت على قاعدة العقيدة الكاثوليكية، وذلك قبل أن يبدأ المنحنى الحضاري رحلة صعوده من جديد بمطلع العصر الحديث، من النهضة إلى الإصلاح الديني إلى التنوير، بموازاة استبدال مصادر إلهامه الديني من التقليد الكاثوليكي، المرتبط بالفلسفة المدرسية، وخصوصاً التومائية المؤسسة على منطق أرسطو، إلى المسيحية البروتستانتية، وخصوصاً الكالفينية التي تصالحت مع عقلية الربح، ومن ثم الرأسمالية الوليدة، التي أنتجت النظام العالمي الواسع للحداثة.
ويشير سالم إلى إن العلاقة بين الدين والحضارة كانت إيجابية في السياق العربي، وسلبية في السياق الغربي، ولكن الدين لم يكن إلا متغيراً واحداً ضمن متغيرات عديدة، سياسية ومعرفية وفلسفية مرتبطة بالعصر الوسيط، فما إن تبدلت تلك المتغيرات حتى تراجعت الحضارة العربية، وباتت العلاقة بين التاريخ والحضارة إيجابية في السياق الغربي، وسلبية في السياق العربي، على الرغم من استمرارية الإسلام عقيدةً قبل هبوب عاصفة الحداثة وبعدها. 
ومن ثم ينبع مصدر التشاؤم العربي الراهن، ويتبلور في تيار فكري سلفي يجسد رفضاً عنيفاً للغرب، ويطرح تصورات عن تنظيم المجتمع والدولة والعلاقة مع الآخر تعاند تلك التصورات القارة في فكر الحداثة؛ تلبية لشروط ما يعدّه هذا التيار "أصالتنا"، عندما ينشد حكماً فردوسياً يتصور أنه قادر وحده على استعادة مجده الضائع، أو هوية مغلقة يتصورها قادرة على ضمان طهرانيته الأخلاقية. ولهذا يبدي استعداده للجهاد العنيف في سبيل فرض تصوراته على الآخرين، سواء داخل الثقافة العربية نفسها، الحبلى بتيارات فكرية أخرى تخون أصالتها، أم خارجها حيث يقبع الغرب الملعون بعلمانيته المدنسة، واستنارته الملحدة! هكذا يصبح ذلك التيار بمنزلة "كهف" للثقافة العربية، تراوح أوهامه في بساطتها واختزاليتها بين اليوتوبيا والعقدة والأسطورة: يوتوبيا الخلافة الدينية، وعقدة الهوية الخالصة، وأسطورة الجهاد الحربي.
ويقول إنه إذا كانت جلّ المجتمعات العربية قد عاشت لسبعة عقود، تلت عصر التحرر القومي، في ظلّ أنظمة عسكرية مارست الاستبداد السياسي من داخل الكهف الأمني، فقد عاش نظام الولي الفقيه لأربعة عقود على قاعدة المذهب الإمامي، بوصفه نظاماً خلاصياً، ادعى القداسة الدينية تأميماً لمفهوم السياسة الدنيوية، ومنعاً للتنوع البشري الخلاق من أن يعكس نفسه في رؤى تتباين مع رؤيته. وعلى هذا يبدي المجالان العربي السني والشيعي الإيراني ممانعة - وإن بأشكال مختلفة - لصيرورة الحداثة السياسية، ويعانيان من أزمة شرعية تسعى نظم الحكم القائمة إلى القفز عليها بافتعال صراعات مع التيارات المخالفة لها، واللعب أحياناً على التناقضات المذهبية القائمة بينها، بما يثيره ذلك التلاعب من أنماط استقطاب وأشكال صراع تضيف إلى أزمة الحداثة السياسية أزمات أخرى، كالاحتراب الداخلي والتفتت الوطني.

الفكر الإسلامي
صلاح سالم

ويؤكد سالم أن نظرية الخلافة السنية لا تختلف عن نظرية الإمامة الشيعية، ولا العرب عن إيران؛ حيث عانى الجانبان من ارتباكات وتعقيدات متشابهة في علاقة تراثيهما بالحداثة، سواء في سعيهما إلى النهوض والتقدم، أم مراوحتهما على مؤشر الاستنارة والعلمنة، منذ واجه كلاهما - ولو بأقدار مختلفة - الضغط الاستعماري الغربي. بل إنّ الطرفين لم يفلتا معاً من عقدة المؤامرة، وإن وقع تباين في اسم المتآمر. 
ويلفت سالم أنّ إيران، التي انتهت في ظلّ الجمهورية الإسلامية إلى التحالف مع روسيا عوضاً عن الولايات المتحدة، قد استمرّت على عداء الشاه القومي للعرب، بل صارت أكثر عداء للطيف السني الأكبر في العالم العربي، مقابل التحالف مع بعض الجيوب والأحزاب الشيعية التي لا تحكم الآن خارج الكتلة الشيعية العراقية، بقدر ما تشكل معارضة مسلحة في غير بلد عربي. وقد ساعد على ذلك أن القوميين والإسلاميين في إيران كان لهم الموقف السلبي نفسه، لذرائع مختلفة؛ فالقوميون عَدُّوا العرب مجرد شركاء في إرث تاريخي متخلف لا بد من الخروج عليه بغية تحقيق التقدم. أما الإسلاميون فأخذوا عليهم محافظتهم الإيديولوجية، وعدم تفهمهم لدعوى الثورة التي حاولوا تصديرها إليهم، محملة بسلطة الولي الفقيه، ما يمثل ثقباً أسود في صياغة الهوية الإيرانية.
ويتابع أن الفهمٍ التاريخي يؤكّد عمق وتشابه الأزمة الشاملة التي يعيشها العالمان العربي السني، والإيراني الشيعي، فكلاهما يعيش مأزق السلطة، عاجزاً عن بناء نظم حكم رشيدة تدير مجتمعاتها بعقلانية وكفاءة، نتيجة الممانعة القوية إمّا من بنيات عسكريتارية وقومية وقبلية هنا، أو أفكار ميثولوجية ودينية هناك. والأمر نفسه على صعيد الهوية، فثمة تيارات غالبة في الثقافتين العربية والإيرانية، تفضل الانطواء على الذات، وتصوغ هوية مغلقة سواء إزاء الغرب المسيحي، أم حتى إزاء الضفة الأخرى من العالم الإسلامي، فتُشيد السدود على قواعد المذهب، وتسهر على حراسة حدوده، الأمر الذي يثير توترات عديدة بين هاتين الضفتين، أو بينها وبين العالم الحديث، بينما تبقى التيارات التوفيقية أو النقدية، بما تمثله من قدرة على التجدد الذاتي، ورغبة في الانفتاح على الآخر، هشة ونحيفة وشاحبة على الجانبين. وإزاء عجز الطرفين عن حل إشكاليتي السلطة والهوية، ينزلق كلاهما إلى أتون العنف السياسي ولو بأشكال متغايرة، تتجلى هنا في تشقق الجماعات الحركية الخارجة على السلطات الرسمية، وتتجسد هناك في انحراف دولة تمارس السلطة الرسمية بطريقة الجماعة الدينية، أو المليشيا الحركية، بدعوى تصدير الثورة الإسلامية. 
وفي سياق كهذا تثور القلاقل بين الطرفين، ويعجزان عن توفير استقرار إقليمي، أو الاندراج في أي نظام للأمن الجماعي، بفعل فهم مذهبي قاصر للعلاقات الدولية، يضع المذهب الديني في موقع الإيديولوجيا السياسية، الأمر الذي يُمكِّن القوى العالمية المهيمنة من توظيف الطرفين في معارك بالية وصراعات طائشة، يخسرها كلاهما، ولو كانت خسارة طرف أقل من خسارة الآخر.
ويؤكد أن المشكلة الأكبر أن الفقيه التقليدي، العاجز جوهرياً عن إعمال العقل في النص، يبقى قادراً دوماً على هزيمة المفكر الحداثي، وتنحيته بعيداً عن تلك المهمة في كل مرة وقع فيها الاختلاف بينهما، ليس لأنه بالضرورة أكثر جدارة منه، بل لكونه يتمركز في قلب نظامي: التعليم الديني، والفتوى الشرعية، وتنظر إليه الجماهير باعتباره صاحب السلطة المرجعية التي يُقيِّم بمعيارها المفكر، فكأنه هنا الخصم والحكم. وهكذا يسهل عليه احتكار عملية التجديد من خلال صوغ قواعدها الحاكمة، وضبط مآلاتها النهائية، وتحديد ما إذا كانت تسير في الاتجاه الصحيح أم أنها قد ضلت الطريق؟ وبالقطع، لن تبلغ طريقها القويم إلا معه، أما المفكر فدائماً ما يهدد نقاء الدين. 
وهنا يكفي الفقيه أن يعلن ذلك للجماهير الغفيرة، التي تتكفل، سواء مع السلطة أم دونها، بالتنكيل به على الرغم من أن دوافعه الأساسية هي الشعور بالمسؤولية عن تحريرها من قيود العقل الخرافي، وإعتاقها من أغلال الاستبداد السياسي، فيما يتمتع الفقيه، أحياناً، بحماية هذا الاستبداد السياسي، مقابل التكريس له دينياً، ولكن الجماهير الواسعة غالباً ما تعجز عن اكتشاف ذلك بنفسها، وعن تصديق المفكر إذا ما أعلنه أمامها، ومن ثم انتصرت للفقيه مراراً، وأدانت المفكر تكراراً.