تيار المسرح النفسي في 'ثلاثة نصوص' إنكليزية معاصرة

الكتاب يضم 'العُزلة' لهارولد بنتر و'الساعة الناطقة' لتوم ستوبارد و'البيت' لدافيد ستورى من ترجمة واختيار المترجم د.محمد عناني يجمع بينها ثيمة أساسية، وهي الانتماء إلى الدراما السيكولوجية حيث تُركِّز جميعها على الأمراض النفسية الشائعة في هذا العصر.

يضم كتاب "ثلاثة نصوص من المسرح الإنكليزي المعاصر" ثلاثَ مسرحيات هي:"العُزلة" لهارولد بنتر، و"الساعة الناطقة" لتوم ستوبارد، و"البيت" لدافيد ستورى، من ترجمة واختيار المترجم د.محمد عناني، كان قد نشرها من قبل في دوريات متخصصة. يجمع بينها ثيمة أساسية، وهي الانتماء إلى المسرح النفسي أو الدراما السيكولوجية؛ حيث تُركِّز جميعها على الأمراض النفسية الشائعة في هذا العصر.

هذا التيار النفسي ولد على أيدي هارولد بنتر، وازدهر على أيدي توم ستوبارد ودافيد ستورى وغيرهما ممن يمثلون "موجة جديدة"، كما يقول جون راسل تايلور في كتابه الذي يحمل هذا العنوان ونُشر عام 1979، موجة تختلف عن موجة الستينيات التي بدأت مع جوز أوزبورن وازدهرت على أيدي بيتر شافر، وجون آردن، وإدوارد بوند وغيرهم.

قدم عناني لكل مسرحية من المسرحيات الثلاثة التي صدرت عن مؤسسة هنداوي، برؤية تفصيلية حول أفكارها الإبداعية والفلسفية..

"العزلة" لهارولد بنتر

هارولد بنتر
مسرحية غير عادية، ينتقل بها المؤلف من مرحلة إلى مرحلة أعمق على طريق تطوره الدرامي

لاشك أن الحرية التي تنتاب بعض قراء مسرحية "العزلة" ـ آخر أعمال هارولد بنتر ـ لها ما يبررها؛ فهي مسرحية غير عادية، ينتقل بها المؤلف من مرحلة إلى مرحلة أعمق على طريق تطوره الدرامي، وهي مرحلة نفسية وتشكيلية معا، بمعنى أن الموقف يستخدم خيوط المشاعر والأفكار وسائر الثيمات الدرامية بصورة جديدة أو يضعها على مستويين متقابلين ومتكاملين في الوقت نفسه؛ المستوى الأول تحليلي ورمزي، والثاني تشكيلي وانطباعي، يشبه ما يصنعه الرسام الحديث بألوانه في فترة ما بعد بيكاسو.

ولا بد لنا إذا أردنا أن نلقي الضوء على هذه المسرحية من التعرض لمفهومين تحدث عنهما النقاد الإنكليز عندما تعرضوا لها وأفاضوا فيهما، وهما: مفهوم تكامل الشخصية وعملية التفرد عند يونغ، ومفهوم علاقة الذهن الواعي بالعالم الخارجي وبالأذهان الواعية الأخرى، على أساس سيطرة أحدهما على الآخر بما يشبه علاقة السيد بالخادم أو الحر بالعبد عند هيغل. أما يونغ فيعني بالتكامل مبدأ التصالح بين العقل الواعي واللاوعي؛ بمعنى أن يقبل الذهن الواعي متناقضات اللاوعي وكل ما سجن داخله من مشاعر مكبوتة وأنماط ورموز فطرية "ورِثها الفرد عن الإنسانية منذ الأزل، وما تزال تعيش في الوجدان الجماعي للبشرية" وبخاصة في لحظات التغير الحاسمة في حياته.. ورغم أن يونغ قد توصل إلى هذا المفهوم عن طريق معالجته للعديد من الأفراد الذين كانوا يترددون عليه باعتبارهم "مرضى نفسيين"، فإنه قد استطاع أن يخرج بنظرية عامة عن التغير وما يحدثه من أزمات قد تصيب الإنسان بتصدع في شخصيته، وقد تجرفه إلى مرحلة من فقدان الثقة بذاته؛ بل والتشكك في أبسط قدراته.. ولهذا فإن يونغ يحدد التغير بأنه أي تحول يحدث للفرد عند تخطيه مرحلة الشباب إلى الكهولة أو أي مرحلة من مراحل العمر تتسم بنشاط وإنتاج وحرية وانطلاق إلى مرحلة أخرى يقل فيها نشاطه، وتتحدد فيها حريته وقدرته على الإنتاج الخلَّاق، ومن ثَمَّ تقل فيها قدرته على الاستمرار في نمط الحياة الذي اعتاده طوال سنوات وسنوات، والذي كان يمثل له قمة تحقيق الذات.. وهذا التحول الذي كان يؤديه وهو في العشرين كما لا يستطيع أن يؤديه ـ إذا استمر فيه ـ بنفس الطريقة.. وهكذا يتصور أن القصور الذي أصابه على مستوى حياته الواعية نذير بالنهاية؛ وذلك لأنه يتجاهل تمامًا أنه ليس عقلًا واعيًا فحسب، وأن في أعماقه حياة حافلة أخرى لا يكاد يدري عنها شيئًا.. وأن لديه قدرات يُفضِّل ألا يكتشفها لتمَسُّكه بقيم المرحلة السابقة التي استطاع فيها تحقيق ذاته على مستوى معين مرتبط بها ولا بد أن يتغير بزوالها.

وهكذا يؤكد يونغ أن التصالح لا يمكن أن يتم إلا بمواجهة الحقيقة، وهي أن الإنسان يتغير، وأن بداخله أشياء لا يعرفها ولا بد أن يأخذها في حسبانه حين يحس ببوادر التغير والاهتزاز في كيانه وذاته نفسها.. وهذا ما يسميه يونغ بعملية التفرد، أي عملية وصول الإنسان إلى تكامل ذاتي باعتباره فردًا مستقلًّا له حياة واعية ولا واعية معًا، ولا يعني التفرد بطبيعة الحال أن يختلف الإنسان اختلافًا شاملًا عمن سواه؛ بل أن يصل إلى مرحلة التوافق بين الوعي واللاوعي.

أن الشخصيتين اللتين اختارهما بنتر في سن الستين بالذات يمثلان حالتين من حالات الوعي واللاوعي؛ بحيث يمكنهما أن تتقابلا وأن تنكر كلٌّ منهما صاحبتها، أي أن يكون الجدل النفسي دائرًا بين ما يعرفه الذهن الواعي وما لا يعرفه، أو بين الوعي وبين عالم آخر مطموس ودفين وخبيء لا يدري الذهن اليقظ عنه شيئا؛ ولكن بنتر في الحقيقة لا يفعل ذلك إلا على مستوى واحد فقط من مستويات المسرحية "السائد في المشهد الأول من الفصل الأول" ومن ثَمَّ يتيح للمفهوم الآخر الذي استمده من هيغل الذي يقدم لنا تنويعًا آخر على نفس هذه الثيمة، ألا وهو التصارع بين الوعي والوعي الدخيل، أو الوعي الغاصب الذي يطلق عليه كولريدج اسم "الذات المغتصبة" أي التي تحاول أن تغتصب حياة الانسان الشعورية الداخلية في فترة النمو. فما معني هذا؟ وماذا يفيدنا هذا المفهوم الهيغلي في تحليلنا للصراع الدرامي؟.

يذهب بعض شُرَّاح هيغل إلى أنه يُصور الصراع بين الذهن الواعي والعالم الخارجي تفسيرًا جدليًّا في كتابه "ظاهريات العقل"، بمعني أن للمؤثرات الخارجية ـ سواء منها الطبيعي والبشري أو الفكري ـ قدرة على غزو الذهن الواعي والاستيلاء عليه في مرحلة النمو، وأن الذهن حينما يتعرض لهذه القوة الغازية يكتسب طاقة على هزيمتها "حتي يحتفظ باستقلاله وصحته"، وذلك بأن يستوعبها ويتمثلها، أي أن يمتصها امتصاصًا كاملًا؛ ولكنه حين يبدو له أنه قد انتصر عليها يكون في الحقيقة قد أتاح لها أن تحتله، أي أن تعيش داخله وتكون لها حياتها الحافلة التي يمكن أن تتنازع السيطرة عليه مع حياته الواعية نفسها!.

وإذا أخذنا مثلًا على هذه العلاقة بين شخصين وجدنا أن محاولة أحدهما الواعية للسيادة على الآخر ذهنيًّا سوف تتضمن حتمًا بذل جهد واعٍ لاستيعاب حياته الشعورية، ومن ثَمَّ سوف تتيح لأفكار وأحاسيس غريبة أن تتسلل إلى حياته الداخلية وتصبح جزءًا من نسيجه النفسي إلى الحد الذي يُمَكِّنها من السيطرة عليه واحتوائه! ومن ثَمَّ يكون النصر في الحقيقة هزيمة والهزيمة نصرًا، وهذا ـ حسبما يقول أحد شارحي هيغل "إيفان سول" ـ يفسر لنا سر حيوية العلاقة بين الرجل والمرأة التي تقوم دائمًا على التناوب في السيطرة بين الاثنين؛ بحيث يبدو لأحدهما أنه قد نجح في استيعاب الحياة الشعورية للآخر استيعابًا يتخيل معه أنه قد انتصر، بينما يكون قد أصبح في الحقيقة قد سمح لهذه الحياة الشعورية الخارجية أن تستولي عليه!.. وهكذا نرى أن المفهوم الهيغلي يتيح للصراع أن يكون بين وعي داخلي وآخر خارجي لا يلبثان أن يتبادلا السيادة، وأن يتناوب الوعيان دورَي الخادم والسيد على أساس جدلي مستمر ودائري!.

"الساعة الناطقة" لتوم ستوبارد

توم ستوبارد
نظرة استعارية شعرية للزمن في إطار 'الساعة الناطقة'

تتميز مسرحية "الساعة الناطقة" أو "إذا كنت سعيدة فأنا أمين" لتوم ستوبارد، بأنها كتبت خصيصا للإذاعة، وأذيعت بالفعل في العام 1966، وذلك في البرنامج الثالث للإذاعة البريطانية، ثم نشرت بعد ذلك عام 1969. ينجح توم ستوبارد في المسرحية، وهو أنه يقدم إلينا نظرة استعارية شعرية للزمن في إطار الساعة الناطقة، أي الإنسان الذي أصبح إحساسه بالزمن يقترب من إحساسه بالساعة أو بالآلة التي تسجل الوقت. أي أن الزمن قد تقطع وتمزقت أوصاله؛ بحيث أصبح يختلف كل الاختلاف عما دعا إليه فلاسفة الديمومة وتيار الشعور (برجسون مثلا) من وجوب النظر إلى الزمن باعتباره تيارا باطنًا لا يمكن تقطيعه ولا يمكن تصوره إلا عن طريق الرموز الخارجية. وهو بهذا يشير بصراحة إلى تحول الإنسان من كائن شعوري ينطلق فيه تيار الإحساس والفكر متحررا من قيود الزمان مرتبطا بجذوره التاريخية والمكانية إلى آلة أو شبه آلة، كِتب عليها أن تنظر باستمرار إلى عقارب الساعة، وأن تحس دوما بالتقطع الذي تحدثه هذه العقارب في الحياة النشيطة له ولمن حوله. أما استعارته الأساسية، فهي انفصال زوجة ما عن زوجها لأنها تحولت إلى ساعة ناطقة. وهذه استعارة تختلف كل الاختلاف عن استعارات كتاب العبث؛ لأن الزوجة لا تتحول فعلا إلى ساعة؛ ولكنها تقوم بوظيفة قارئة أو مذيعة تقول لمن يدير قرص التليفون ليسأل عن الوقت كم الساعة الآن! وهذا البعد الواقعي هو الذي يعطي مسرحية توم ستوبارد وزنها الجديد في كفة مسرح السبعينيات؛ كما أن الإحساس العام الذي يسيطر على الجميع في هذه المسرحية، التي يمكن أن نسميها بالكوميديا السوداء، هو الإحساس بالحتمية الذي تفرضه ثيماتها الرئيسية وأهمها ثيمة الزمن.

"البيت" لديفيد سنوري

ديفيد سنوري
عوالم غريبة لا نستطيع أن ننكر وجودها مهما بلغت غرابتها حتى داخل نفوسنا نحن

تدور أحداث المسرحية في مصحة عقلية، والإنكليز يسمون مثل هذه المصحات بيوتا عقلية أو نفسية، فالبيت هو "بيت نفسي" ـ أي "بيت" لعلاج الأمراض النفسية ـ وهذا هو أول بعد من أبعاد هذا العنوان؛ إنه بيت النفوس، وهو كما تقول بعض الشخصيات "يختلف تماما عن بيوتنا" فهو بيت نطرقه وندخل إليه لنرى عوالم مختلفة، يصورها دافيد ستوري تصويرا رقيقا فيه حنو وتعاطف مع من يقيمون فيه، وقد تقطعت أواصر علاقاتهم بالعالم الخارجي، وأصبحوا يجدون في محاولة إقامة العلاقات بديلا عن العلاقات نفسها، ولذلك فهم ـ كما يقولون ـ "يحاولون دائما"، من "لا يحاول لا يستطيع أن يصل". وفشلهم في التواصل رغم المحاولة الدائبة محتوم منذ البداية؛ فهو قوة نواجهها ونفزع لمرآها ولكننا نعتاد عليها حتى تتكشف لنا من خلال الحدث الجديد ـ أي النوع الجديد للحدث الدرامي الذي يقدمه املؤلف ـ عوالم غريبة لا نستطيع أن ننكر وجودها مهما بلغت غرابتها حتى داخل نفوسنا نحن ـ أي داخل نفوس من يعتقدون أنهم أسوياء. ولذلك فإن دافيد ستوري لا يعتمد على العنف ولا على الحدث المادي، أي الفعل بالمعنى التقليدي للفعل الدرامي؛ ولكن على تقابل الحالات النفسية التي تولد توترا رقيقا يبلغ ذروته كل مرة عندما يبكي رجل، أو عندما يمسح رجل آخر دموعه في صمت.

قام بالأدوار الرئيسية في هذه المسرحية عندما قدمت لأول مرة عباقرة المسرح الإنكليزي: جون جيلجود، ورالف ريتشاردسون، فأوحيا بأن الأبطال متقدمون في السن؛ ولكن هذا قطعا ليس منصوصا عليه في المسرحية. وقد اعتمد المخرج لنْدسي أندرسون على أدائهما في تفسيره للعجز الذي تصوره الخيوط الشعرية لها البيت. أما البُعد الثاني للعنوان وهو الإيحاء بأنه "الوطن" أي إنكلترا على مشارف السبعينيات، فيضع المسرحية في إطار اجتماعي أوسع هو إطار عجز الحضارة التي أخرجت ـ كما يقول الأبطال ـ الرادار، والبنسلين، ونيوتن، ودارون؛ عن إخراج نفوس صحيحة قادرة على الحياة الخصبة في مجتمع صحيح. فالمؤلف يستخدم الاتجاه نحو الآلة لإبراز انهيار مارجوري التي فقدت عملها الآلي لأن الآلة حلت محلها. ويستخدم التمزق العائلي لإبراز انهيار كاثلين وعودتها إلى مرحلة مراهقة جنسية مشتتة. ويستخدم العوامل الهدامة التي ولدتها الحرب وتقاليد الجامعات القديمة في تفسري عجز الرجلين عن التعامل مع الواقع في منطق التكيف والتقبل والتكامل. أما ألفريد فإنه في هذا الإطار رمز لقوة الشباب التي فقدت الانتماء إلى أي إطار فكري أو شعوري متماسك؛ فأصبحت قوة جسدية تائهة غاشمة. قطع من مخه قطعة فرجحت قوته العضلية على قوته الذهنية.