"جهاد في الفن".. جهاد في الحوار

مصطفى عبدالله، بذل جهدًا بالغًا ليكشف لنا قارة يحيى حقي، بتفاصيل ثرية في الحياة والإبداع والفكر والسياسة والعلاقات والأخلاق، لم نكن عرفناها بهذا الشمول من قبل.
الكتاب يضم آراء نقدية وفكرية تتعلق بموجهات الكتابة الأدبية، والجانب الذي ينبغي أن تنتهجه الكتابة المصرية والعربية
الحوار وما تخلله من أفكار ورؤى ولغة كان ارتجاليًا، قائمًا على آلة تسجيل

يغري كتاب "جهاد في الفن" بأكثر من قراءة ممتعة، لأنه يسرد على لسان الكاتب المصري الكبير يحيى حقي، تجربته الغزيرة في مجال السرد القصصي والروائي، وفي كتابة اليوميات، والدراسات، والمسرح، والترجمة، فضلاً عن عمله الدبلوماسي في السفارة المصرية في أكثر من بلد عربي وأجنبي، ونشاطه هناك.
الكتاب جاء عبر حوار طويل أجراه معه الصحفي والكاتب المصري البارز مصطفى عبدالله، بذل فيه جهدًا بالغًا ليكشف لنا قارة هذا الكاتب الكبير، وبتفاصيل ثرية في الحياة والإبداع والفكر والسياسة والعلاقات والأخلاق، لم نكن عرفناها بهذا الشمول من قبل.
يصدّر الكاتب عبدالله صفحات كتابه، بمقطع صغير على لسان الكاتب الكبير يحترس فيه من "قولة أنا" التي سترد ما دام الحديث يصب في التجربة الشخصية: "أنا مع احترامي والتزامي بالحكمة القديمة، أعوذ بالله من قولة أنا" (ص5).
بدأت تجربة عبدالله مع حقي عندما سافرا معًا عام 1984الى إيطاليا، بمناسبة الاحتفالية بتوفيق الحكيم التي أقامها المكتب الثقافي المصري هناك، وأناب الحكيم عنه حقي لمرض طارئ ألمّ به، فكانت اللقاءات هناك؛ اللقاءات التمهيدية للاستمرار فيما سوف يؤلف هذا الكتاب.
يقسم الكاتب كتابه إلى أقسام تبدأ بالحوار الذي استغرق مائة وخمس عشرة صفحة من القطع الكبير، وموضوعات أخر؛ هي عبارة عن: ملاحق وشهادات بدأت بشهادة نجيب محفوظ، وانتهت بشهادة محمد روميش وهو كاتب مصري كبير وغزير الإنتاج، مرورًا بأسماء مهمة في عالم الثقافة والأدب مثل؛ فؤاد دوارة، د. لويس عوض، إدوار الخراط، فتحي غانم، سعيد الكفراوي، وجمال الغيطاني... وأسماء كبيرة أخرى.
إنّ ما يحفز على القراءة الممتعة والنافعة في آنٍ واحد، الآراء النقدية والفكرية التي تتعلق بموجهات الكتابة الأدبية، والجانب الذي ينبغي أن تنتهجه الكتابة المصرية والعربية، وهو هنا حسب منطق الكاتب الكبير؛ الجانب الاجتماعي تحديدًا، مع إيمانه بمتطلبات الكتابة الحديثة وتقنياتها المتجددة.
أفكار ورؤى

وبرغم أن الحوار وما تخلله من أفكار ورؤى ولغة كان ارتجاليًا، قائمًا على آلة تسجيل، فلقد كان يؤشر على البعد الثقافي واللغوي للرجل الذي كان من دعواته للمثقفين الشباب، إتقان لغة ثانية ولاسيما الإنكليزية، من أجل قراءة الكتاب بلغته الأم، وليس مترجمًا ترجمة ركيكة في أغلب الأحوال.
لذا فإن إجادة لغة ثانية للشباب العربي "إنما هي مسألة حياة أو موت" (ص73)، وهو يجيد ثلاث لغات أو أكثر كالإنكليزية والفرنسية والإيطالية، وله في ذلك ترجمة عدد من المسرحيات والروايات.
يولي الكاتب الكبير عربيته عناية فائقة، ولعل من طريف ذلك أنه أعاد صياغةَ جملةٍ ذات مرةٍ، أكثر من خمس وثلاثين مرةً على سبيل المثال. فهو له جهاد مع اللغة، ويتمنى ألّا يجور أحد على جهاده معها، فما "قنديل أم هاشم" إلّا اللغة التي أحاطت ميدان السيدة زينب، بعيون ثلاث؛ "عين محايدة، عين غاضبة، وعين راضية وكيف انعكس هذا على الأسلوب" (ص43).
ثم أنه في فقرة أخرى من حواره يربط بين اللغة والنهضة الأدبية فيضيف: "وذلك لأن اللغة هي وعاء الفكر، فإذا ما كانت "مبهوقة"، أو ضيقة سيتأثر الفكر بالضرورة، لأننا يجب علينا لكي نتبادل أفكارنا أن نستخدم لغة دقيقة. وأنا مؤمن بأنه لا يمكن أن تنمو عندنا نهضة أدبية حقيقية، إلا إذا توجه الاهتمام إلى ضبط الأسلوب، وإحكامه بحيث يعكس نصاعة الفكر..." (ص100).
ومن إنسانيته وتواضعه ورقّة قلبه وقوفه مع الكومبارس ضد الأبطال، أو بعبارة يمكن تعديلها لسعة دلالتها أنه مع الكومبارس أكثر من الأبطال مستعينًا على موقفه هذا بالمثل الشعبي "العين لا تعلو على الحاجب"، ثم يقول: "أنا لم أجرِ وراء الأبطال، لكنني مددت من قلبي خيوطًا من الود تربطه بكل كومبارس أقابله، أو حتى أشاهده من بعيد على المسرح أو في الشارع...." (ص 109).
ويجمع حقي بين عمله الدبلوماسي والصياغة الفنية لأدبه، حينما يردّ على السؤال عن إفادته فنيًا من حقله الدبلوماسي، إذ يقول؛ ".. ومن الدبلوماسية يتعلم الإنسان حسن التصرف، وكيف يتعامل مع المواقف والبشر بلباقة، وهذا كله ينعكس على أسلوب الكاتب عند الكتابة". (ص78).

استعراض صفحات
وحين يستعرض بعض صفحات حياته يشير، من حيث يدري ولا يدري، إلى بعض أوجه الشبه بعميد الأدب العربي طه حسين، إذ كلاهما تزوج من فرنسية، وكلاهما أفاد أو استعان بعينيها، الأول منذ اقترانه بزوجته، والثاني منذ أن كلّ نظره قبل أكثر من عشر سنوات قبل رحيله. 
وهو وطني ونزيه الروح، لم يركض عمره "خلف الفلوس" (ص 95) ويضرب أمثلة محلية على ذلك، ثم يفضل عرضًا بإعادة طبع أعماله في الهيئة المصرية العامة للكتاب، على عرض السفارة الأميركية في القاهرة على الموضوع عينه، برغم تفاوت المقابل المادي بين العرضين!
ويبرر ذلك بقوله "لأن علاقتنا مع أميركا لم تكن على ما يرام في ذلك الوقت" (ص 96).
ويدافع عن نجيب محفوظ أمام المتشككين بأدبه "والله العظيم أنا أعتبر نجيب محفوظ من معالم مصر الأثرية، لأن هذا الرجل منذ بدأ يكتب عبّر عن عبقرية وأصالة لا حدّ لهما، كما عبّر عن فكر ليبرالي لم يتحول عنه طوال مراحل إبداعه" (ص 101).
لقد كانت الرحلة مع الكاتب الكبير فيما أفاض به فسحة طويلة عريضة متصلة، أتاحت لنا معرفته من قرب، بقلم كاتب صحفي كبير هو الآخر كان لصبره وجهده ما عرّفنا على شرف العمل الصحفي حينما يكون إبداعًا، يضاف إلى ذلك الشهادات الكريمة والصادقة والممتعة معًا التي صدرت بحق الكاتب الكبير، فدلت دلالة جلية على مكانة الكاتب، ونبل الشهود وكرامة الساحة التي توزعت عليها أعماله الخالدة.
الكتاب من إصدارات المجلس الأعلى للثقافة في مصر عام 2005 وعدد صفحاته مع الصور 221 من الحجم الكبير.