جوستين: ثنائية الخير والشر  

بعض الفلاسفة يرى أنّ الأصل في الإنسان هو الخير لكن المجتمع يُفسده، بينما يرى غيرهم أنه لولا وجود وازع قانوني وديني لانفلت منه الشر.
الحوار يكتسبُ أهميّة أكثر في الروايات الفلسفية ويتحوّل أداة لنقل الأفكار التي تُمثّلها شخصيات الرواية.
سيمون دي بوفوار تصف الماركيز دي ساد بأنه أخلاقي بامتياز

بقلم: كه يلان محمد
 
ما انفكّت مسألة الخير والشر مادةً في المناقشات الفكرية والبحوث النفسية، وتباينت الآراء والتفسيرات بشأن ما يحمله الإنسان من نوازع خيّرة أو شرّيرة، ولم يزل السؤال قائماً حول أصل هذين النقيضين في طبائع هذا المخلوق المُلَغز الذي أشكل على ذاته.
يرى بعض الفلاسفة أنّ الأصل في الإنسان هو الخير لكن المجتمع يُفسده، بينما يرى غيرهم أنه لولا وجود وازع قانوني وديني لانفلت منه الشر، لأنَّ هذا الطبع الشرير متجذّر في أعماق الكائن البشري حسبَ النتيجة التي توصّل إليها الفيلسوف الألماني كانط، ولا تختلف رؤية الروائي الإيطالي إمبرتو إيكو عن هذه القناعة إذ لا يجد صاحب "مقبرة براغ" في تاريخ البشرية فضيلةً لأنها تنتقل عبر الجرائم والمجازر.
كاتب فضحائي
خرج النقاش حول هذه الإشكالية من رواق الفلسفة والفكر وأصبحَ ثيمة في بناء الروايات التي توصف بالروايات الفلسفية التي توظّف كمّاً هائلاً من الأفكار التي يستمدها الكاتب من خبراته وقراءاته واستقصاءاته ومشاهداته البصرية، وفقاً لما حدّدتهُ الكاتبة والروائية لطفية الدليمي من مصادر الرواية الفلسفية.
ولعلّ من أبرز الروايات التي عالجت هذا الموضوع هي رواية "جوستين" للفرنسي المركيز دوساد، الذي شهدت حياته منعرجات صعبة ونعتوه في عصره بشتى التُهَم. كما أنّ اسمه يُطلق على الشخص الذي يعاني مرضاً نفسياً من أعراضه التذوّق من التعذيب والتنكيل بالآخر، واقترن صيت مؤلف "الفلسفة في المُخدع" بالشذوذ والفضائحية.

الصراع بين الخير والشر شغل كثيراً من المفكّرين والأدباء، وتساءلوا عن سبب اندحار الخير. غير أنّ نجيب محفوظ له تفسير آخر وهو مقتنع بأنَّ الغلبة دائماً للخير، ونحن لا نفهم هذه الحقيقة نتيجة صخب الشر وضجيجه وبذاءته.

يشير لـ ت. ودورد، وهو عالم نفسي معروف، في مقدمة رواية "جوستين" إلى أنّ المركيز دوساد كان قد تزوّج من ابنة عائلة نبيلة بعدما استقال من العسكرية، غير أنه قد أغرم بأخت زوجته وأغواها، وهذا ما جلب عليه سخط العائلة، خصوصاً بعدما يتمادى في عربدته ويرتاد بيوت الدعارة. إذاً، ما تراه من المشاهد الموغلة في الرذيلة ضمن روايات ابن باريس ليس إلّا تعبيراً عن أفكار وسلوكيات طبقات مخملية في المجتمع. لذا، يفرد في عمله "جوستين" الذي يحملُ اسم بطلته، مساحة لحوارات ذات نزوع فلسفية.
سجالات
يدعمُ الحوار بناء الرواية بمزيد من الحركية، ويمنحُ زخماً لشريط السرد، ما يعني إبعاد النصّ من الرتابة وإمكانية التنقّل بين أجزائه بالانسيابية. إضافة إلى ما سلف، فإنَّ عنصر الحوار يكتسبُ أهميّة أكثر في الروايات الفلسفية ويتحوّل أداة لنقل الأفكار التي تُمثّلها شخصيات الرواية. أسلوب يعتمده المركيز دوساد في رواية "جوستين"، ترجمة محمد عيد إبراهيم. حيث تكتسي شخصياته دلالة رمزيّة، لاسيما شخصية جوستين وأختها جوليت، فاثنتان على رغم انتمائهما إلى عائلة واحدة، لكن شخصيتيهما متناقضة. فالأولى ترمزُ إلى العفّة والبراءة، والأخرى تسلكُ طريقاً مُغايراً. 
بعدما تفترق السبل بالأختين، تمتهنُ جوليت بيع اللذة ويقعُ كثير من شخصيات مُجتمعية في شرك فتنتها. وما يستأثرُ باهتمام القارىء هو حياة جوستين وتمسّكها بمبادئها المثالية والقيَم الأخلاقية النبيلة، ما يجعلها وحيدةً في وسطٍ يموج بمظاهر التهتّك والفساد والمجون ويتحكّمُ بأفراده مبدأ الجشع والاستغلال، ولا تبرز هذه الحالة من الاستقطاب بين البطلة والشخصيات الأخرى إلّا عبر الحوار، بدءاً مما يدور بين جوستين والسياسي السيّد ديبور الذي يرفض قيَم العطف والرحمة، إذ تسمعُ على لسانه استهانة بالضعفاء مدعّماً رأيه بما كان سائداً في الحضارات القديمة، إذ ينتظرُ القتل والإبادة مصير أطفال العجائز والضعفاء إلى آخر من يلتقي بالبطلة. حيثُ يسهبُ ديبور في الردِّ على من يقتنع بضرورة الإحسان وما يجنيه المرءُ مقابل الخير، فبرأيه لا تُكسبُ هذه المفاهيم غير الوهم، لذا تكون الأفضلية للملذّات الحسيّة وما يمَتّعُك ماديّاً. فكلُّ ما يحكيه هذا السياسي هو من أجل إقناع جوستين بتلبية رغباته الجسدية، وعندما يقتربُ من نيل مرامه فإنَّ الجسدَ يخونهُ وهذا ما يتكرّرُ في المراحل اللاحقة، حيث يتدخل مجهول لحماية عفّة جوستين.
إكتشاف
تقترن بنية الرحلة بالاكتشاف والتحوّل في الرؤية والأفكار واستجلاء ما يكتنفه الغُبش، إذ تدركُ جوستين عبر رحلتها بين ليون ولوزان ومارسيليا وبلدات أخرى، أنَّ الرذيلة بكلّ أشكالها أصبحت صفة لاصقة في بنية المكوّنات الإجتماعية باختلاف انتماءاتها واهتماماتها المهنية، إذ ما تشهدهُ لدى النسّاك المُتستّرين وراء التعبّد وهم يستدرجون عدداً من الفتيات بالانتظام بواسطة 12 امرأة مؤتمنة لإقامة حفل الدعارة والتعذيب، هو وجه آخر لما مرّت به لدى الطبيب رودن الذي يتمتّعُ من تعذيب ابنته. وعندما يتسلّمُ منصباً سياسياً يتوغّل في استغلال أهل البلدة، وكلّما انغرزوا في الفاقة يربح أكثر وتتعاظم ثروته. وينضمّ الكونت بريساك إلى هذه السلسلة، فالأخير لا يكتفي بالتشبّع من الرذيلة واستغراقه في رغباته الشاذة، بل يقتلُ عمّته ناسباً التهمة إلى جوستين. 

تعبير عن أفكار وسلوكيات طبقات مخملية
مساحة لحوارات ذات نزوع فلسفية

وسبق لهيربن أن اتهم البطلة بالسرقة بعدما أبت أن تكونَ مُحترفةً لصالح سيّدها الذي اختار لها اسم تريز. فهي بالتالي، تعيش تجربة السجن وهناك تقابل مدام ديبو، فهي تحرق السجن وما فيه لتجد منفذاً للهروب وتلحق بها تريز، غير أنّ نجاتها لن تكون بدون الثمن، وهو التخلّي عن العفّة والتماهي مع شرّهم.
يُذكر أنّ هذه الشخصية تعود إلى مسرح الأحداث قبل نهاية الرواية وتتحيّنُ فرصة للإيقاع بتريز، عقب نهب أموال صديقها دوبريه الذي يبادلُ الفتاة المنكوبة الحبّ والإخلاص. لكن مرة أخرى، ترجّحُ كفة الشرِّ، فتدسُ ديبو السمّ لدوبريه كما تنصب شركاً لتريز يودي بها نحو غياهب السجن من جديد بتهمة إحراق الخان الذي يبيتُ فيه المسافرون إلى (شالو).
ومن المفارقات التي نراها في شخصية "جوستين" أنها لا تُكافَأ إلّا بالشرّ مقابل توقها للخير، كأنّ البراءة أصبحت وزراً. فبدلاً من أن يردّ فلورن إليها بالإحسان بعدما تخلّصه من اللصوص، يعتدي عليها ويفترس عفتها. كذلك الأمر بالنسبة لشخصية رولان الذي كان يُجنّدُ جيشاً من النساء في عملية تزييف العملات. 
على هذا المنوال تختبر جوستين دورة الحياة وتنتهي الأحداث بلقاء الأختين عندما تُساق جوستين إلى مصيرها المأساوي لتُعاقب على جرم لم تتورّط فيه. وما يلفتُ الإنتباه، هو تغيّر قناعات جوليت إذ تشعر بوَخز الضمير وتفضلّ أن تختار درباً جديداً بعيداً عمّا كان محفوفاً بالملذّات والطيش. وعليه، فإنَّ هذا الموقف يُفنّدُ ما عرف عن المركيز دوساد بأنَّه يهدف إلى الإثارة والفسوق والخلاعة بل غايته تتمثّلُ في تعرية المجتمع والرذائل المضمرة في الطبقات السحيقة، والشرّ الدفين في الكائن البشري. 
بالطبع، إنَّ الصراع بين الخير والشر قد شغل كثيراً من المفكّرين والأدباء، وتساءلوا عن سبب اندحار الخير. غير أنّ نجيب محفوظ له تفسير آخر وهو مقتنع بأنَّ الغلبة دائماً للخير، ونحن لا نفهم هذه الحقيقة نتيجة صخب الشر وضجيجه وبذاءته.
هنا لا بُد من أن نشير إلى أنّ جملة من الآراء المحبوكة في متن "جوستين" تسمع صداها لدى نيتشه وشوبنهاور. وما يجدر بالذكر هنا هو رأي الفيلسوفة الفرنسية سيمون دي بوفوار، حسبما أورده الكاتب العراقي علي حسين، إذ تصف مؤلفة "الجنس الآخر" الماركيز دي ساد بأنه أخلاقي بامتياز، يشجّع الناس على الفضيلة والأخلاق بإثارتهم نحو بشاعة الشرّ، حتى يقوموا بالتمرّد عليه، لأنّه يحاول إذلال القارئ باقتياده إلى أقاصي الفساد.